السنة الخامسة رمضان 1446 هـ - مارس 2025 م


د. يوسف زهران
الرد على أجنبية مصدر التصوف (1) ادعاء المصدر الهندي
د. يوسف زهران

هذه المقالات مأخوذة من رسالة الدكتوراه للباحث في الموضوع نفسه

 إن قضية القول بأجنبية مصدر التصوف الإسلامي، من أهم وأخطر قضايا التصوف في الفكر الاستشراقي، حيث ركز المستشرقون على أن يجعلوا التصوف مأخوذًا عن حضارات وثقافات غير إسلامية، وقطعوه عن أي مصدر إسلامي، فجعلوه شتاتًا من كل فكر، وقصاصات من كل فلسفة ورأي، وفي هذا مجافاة للصواب، وتحامل واضح، وإنكار للحق .

ونلاحظ أن كل من جاء بعد هؤلاء المستشرقين من نقاد – سواء مستشرقون أو غيرهم - أخذ عنهم القول بأجنبية مصدر التصوف الإسلامي، كما نلاحظ أن من المستشرقين من يقول بالمصدر الواحد، ومنهم من يقول بوجود عدة مصادر .

أما المصادر الأجنبية التي عولوا عليها فهي: المصدر الهندي، والمسيحي، واليوناني، والأفلاطونية، والأفلاطونية الحديثة، والفارسية، والشيعة، والغنوصية، والغنوسطية، والإغريقية، وفلسفة إخوان الصفا .

ونبدأ بإذن الله هذه السلسلة بعرض القضية الأولى وهي: الادعاء أن مصدر التصوف الحضارة الهندية .

و من القائلين بهذا الرأي من المستشرقين: المستشرق: وليم جونز (توفي سنة 1794م)  وهو أول من أشار إلى نظرية المصدر الهندي، وقد أخذ عنه هذا القول كثير ممن جاء بعده، فتأثروا به أيما تأثير .

والمستشـرقين مارتن هارتمان (توفي سنة 1918م) وماكس هورتن (توفي سنة 1945م) يقول د/ أبو العلا عفيفي: إن نزعتهما واحدة: وهي أن التصوف يستمد أصوله عن الفكر الهندي، حتى لقد أكد (هورتن) أن التصوف الإسلامي هو بعينه مذهب الفيدانتا الهندية، وقد نشر هارتمان بحثًا سنة 1916م خلاصته أن التصوف الإســـلامي مَدين للفلسفـــــــــــــة الهنــــــدية، التي وصلت إليه عن طــريـــق مثــــــــرا  (اسم لمعبود في فارس القديمة، قبل الزرادشتية) ومـــــانــــــي (الحكيم ماني بن فاتك) من جهة، وللقبَّالة اليهودية، والرهبنـــة المسيحيـــة، والغنوصية، والأفلاطونية الحديثة من جهة أخرى، وهو يرى أن الذي جمع هذه العناصر كلها ومزجها مزجًا تامًّا في التصوف هو "الجنيد" .

أما حُججه في تأييد الأصل الهندي فهي، أولًا: أن معظم أوائل الصوفية من أصل غير عربي؛ كإبراهيم بن أدهم، وأبي يزيد البسطامي .

ثانيًا: أن التصوف ظهر أولًا وانتشر في خراسان .

ثالثًا: أن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات، والثقافات الشرقية، والغربية، فلما دخل أهلها في الإسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة .

رابعًا: أن الزهد الإسلامي الأول هندي في نزعته، وأساليبه .

والمستشرق ألفرد فون كريمر (توفي سنة 1889م) الذي يُرجع التصوف إلى ثلاثة مصادر: الأفلاطونية الحديثة، والهندية، والمسيحية، وعن المصدر الهندي يقول "كريمر": إننا نضطر أن نعزو بحق نشأة التصوف الإسلامي والذي يشبه تعاليم مدرسة الفيدانتا إلى مؤثرات هندية، ويمثل لذلك بطريقة الذكر والتأمل .

والمستشرق إيجناس جولد تسيهر (توفي سنة 1921م) ويُرجع جولد تسيهر التصوف إلى عدة مصادر: المسيحية، والأفلاطونية، والأفلاطونية الحديثة، والغنوصية، والهندية، وفلسفة إخوان الصفا، وعن تأثر التصوف بالفلسفة الهندية "البوذية" يدلل "تسيهر" بعدة مبادئ، يقول إنها مشتركة، وقد أخذها الصوفية عن الهنود، وهي: التشابه بين قصة "بوذا" وقصة الولي "إبراهيم بن أدهم" ، وفكرة "الفناء" عند الصوفية تقترب من فكرة الجوهر الذاتي الهنديةATMAN ، ويشترك البوذيون والصوفيون في مبدأ التأمل، والعزلة، والخرقة، والأشكال الكثيرة للرياضات الدينية المتعلقة بالذكر في الجماعات الصوفية، واستعمال المسبحة .

والمستشرق رينولد ألين نيكلسون (توفي سنة 1945م) الذي يُرجع التصوف إلى مصدر بوذي هندي، ويخرج "نيكلسون" بأوجُــه تشــــابه بين التصــــــوف والبوذيــــــــة، هـــــي: الفنـــــاء، والتأمل، واستعمال المسبحة، وقصة إبراهيم بن أدهم وبوذا، وهكذا يقطع هؤلاء المستشرقون التصوف عن مصدره الإسلامي، وينسبوه إلى المصدر الهندي .

تحليل نظرية المصدر الهندي:

المصدر الهندي، من أهم المصادر التي عول عليها الناقدون في القول بأجنبية مصدر التصوف، يقول "دي لاسي أوليري" (توفي سنة 1957م): إن البحث الدقيق لا ينتهي إلى أن الأثر البوذي كان ذا خطر عظيم في التصوف الإسلامي، لا سيما أن التشابه الذي يوجد بين النرفانا البوذية، والفناء الصوفي، إنما هو تشابه سطحيٍ .

ومما يؤكد عدم التأثر، أن فتح الهند كان سنة 93هـ ، والعلاقات بين المسلمين والهند ظهرت مع بداية القرن الثاني الهجري بالبصرة، "لكن هذه العلاقات اقتصرت على تبادل المعارف العلمية؛ مثل الزيجات الفلكية التي ترجمها الفزاري (توفي سنة 180ه) سنة 154 هـ والمعارف الرياضية، خصوصًا الأعداد، وحساب الجيب في حساب المثلثات، وبعض المعارف الطبية، ولكن الأمر لم يتجاوز هذا إلى المعلومات الدينية، فالعلاقات لم تؤدِّ إلى تبادل أفكار دينية، وأيضًا قبل ذلك الوقت كان قد ظهر التصوف، ففي بداية القرن الثاني الهجري كانت مدرسة الإمام/ الحسن البصري -رضي الله عنه- الصوفية قد ملأ تلاميذها بلاد الإسلام .

فالقول بتأثر التصوف الإسلامي بعقائد الهند؛ كلام غير صحيح، إذ إن المسلمين لم ينتبهوا لثقافة الهند قبل القرن الخامس الهجري، فـلم يعرف المسلمون العقائد، والفلسفة، والعلوم الهندية معرفة دقيقة واضحة مفصلة، قبل أن يؤلف البيروني (توفي سنة 423ه) كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة"، والذي ألفه في الربع الأول من القرن الخامس الهجري، أي في وقت متأخر عن الوقت الذي بدأ الزهد والتصوف يستحيل فيه إلى علم نظري، وعملي، له أذواقه، ومجاهداته، وحقائقه، ومشاهداته، فالتصوف قد تأصل في القرن الثاني الهجري، قبل كتاب البيروني، واطلاع المسلمين على الثقافات الهندية .

وعليه: فإن القول بأن أصل التصوف هو الأفكار والنظريات الهندية قول غير صحيح، لأن هذه النظرية كما يقول د/ محمد مصطفى حلمي: ينقصها الدليل ويُكذبها الواقع، والتاريخ؛ لما يأتي، أولًا: إن التصوف الإسلامي نشأ قبل أن تتسرب الأفكار الهندية إلى البيئة الإسلامية، وقبل أن يظهر المرجع الوحيد الذي تعرض لوصف عقائد الهند؛ وهو كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة" ، ثانيًا: إن البيروني يذكر بعض مقارنات وتشابُه، ولكنه لا يتحدث عن تأثير وتأثر، ولعل السبب يرجع إلى أنه يعلم أن الصوفية المسلمين – وبخاصة الحلاج، والبسطامي، والشبلي – لم يكونوا على علم بمذاهب الهند ومعارفهم، بل يرى أنه أول من تحدث من المسلمين، وكتب عنها، وإنما بدأ التأثر والتأثير فيما بين الهندوكية والإسلام في بلاد الهند نفسها، بفضل الدعاة المسلمين في بلاد الهند، ممن قاموا بنشر الدعوة الإسلامية، وعلى ذلك فلا يوجد سند تاريخي يؤيد هذه النظرية، أو يُثبت تبادل الأفكار بين المسلمين وأصحاب هذه النظرية قبل كتاب البيروني، مما يؤيد أن التصوف الإسلامي لم يتأثر في طور النشأة الأولى بالأفكار الهندية، فقد بُنيت هذه النظرية على كتاب "البيروني"، الذي أُلف بعد تقعيد، وتأصيل التصوف .

كما أن "البيروني" نفسه لم يقل برجوع أصل التصوف إلى الثقافة الهندية، بل إنه في كتابه يعرض مذاهب الهنود، ويذكر التشابه إن وُجد، يقول د/ حسن الشافعي: إن فكرة التأثير والتأثر لم تكن واردة على ذهن "البيروني" آنذاك، ناهيك عن أن التشابه بين مذهبين لا يُفضي ضرورة إلى القول بتأثر أحدهما بالآخر، حتى نتحقق من وجود مسارب انتقل من خلالها هذا التأثر، والبيروني صاحب الكتاب الذي هو المعول الأساسي في هذه النظرية لم يؤلف كتابه لعقد التشابه بين الثقافتين، بل كان لعرض مذاهب الهند فقط .

وهكذا: يتبين لنا خطأ هذه النظرية، التي بُنيت على كتاب "البيروني" (تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة) الذي ألفه في القرن الخامس الهجري، ولم ينتبه المسلمون قبل هذا الكتاب إلى ثقافات الهند، ولم يعرفوها، فكيف يكون التصوف مأخوذًا عنها، والتصوف بدأ ببداية الدعوة، وكبار شيوخه كانوا في القرنين الثاني والثالث الهجريين، أي قبل البيروني وكتابه بقرنين من الزمان . يتبع .

 

المراجع:

الحضارة الإسلامية ومدى تأثرها بالمؤثرات الأجنبية ، ألفرد فون كريمر ، ترجمة د/ مصطفى طه .

في التصوف الإسلامي وتاريخه، رينولد ألين نيكلسون، ترجمة د/ أبو العلا عفيفي .

الصوفية في الإسلام، رينولد ألين نيكلسون ، ترجمة نور الدين شربيه .

العقيدة والشريعة في الإسلام ، إيجناس جولد تسيهر .

الحياة الروحية في الإسلام د/ محمد مصطفى حلمي .

تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني د/ عبدالرحمن بدوي .

فصول في التصوف أ د/ حسن الشافعي  .

أضواء على التصوف د/ طلعت غنام .

التصوف بين الغزالي وابن تيمية د/ عبدالفتاح محمد .