السنة الخامسة ربيع الأنور 1447 هـ - سبتمبر 2025 م


د. يوسف زهران
الرد على أجنبية مصدر التصوف (3) ادعاء المصدر المسيحي
د. يوسف زهران

هذه المقالات مأخوذة من رسالة الدكتوراه للباحث في الموضوع نفسه

من القائلين بالرأي أن مصدر التصوف مسيحي: المستشرق ميجيل آسين بلاثيوس (توفي سنة 1944م) يقول بلاثيوس: إن التصوف مأخوذ عن المسيحية، وأن صوفية الإسلام قد أخذوا التصوف عن الموحدين المسيحيين، كما يقول: إن زهاد الإسلام أخذوا الزهد عن الرهبان المسيحيين، وتأثروا بهم.

والمستشرق جوزيف شاخت (توفي سنة 1969م) الذي يقول : إن التصوف الإسلامي مصدره مسيحي، ويقطع بوجود تشابه بين التصوف الإسلامي والتصوف المسيحي فـي: المقـــامــات، وتصفية النفس، فيقول: من الملامح المميزة للمذهب الصوفي، القول بنظرية: المنازل، والمقامات، والأحوال، وقد تكلم في هذه النظرية بإجمال "ذو النون المصري" في القرن الثالث الهجري، وربما يكون قد تأثر في ذلك بروحانية الزهاد والمتصوفة من الرهبان الشرقيين.

والمستشرق "فون كريمر" الذي يقول: لا يمكن الشك في أن أفكارًا لا أدرية مسيحية (اللا أدريّة: هم الذين ينكرون العلم بثبوت شيء، ولا ثبوته، ويزعمون أنّه شاكّ، وشاكّ في أنّه شاك) قد تسربت إلى التصوف، ويرجع أصل التصوف العربي الأول، المعروف بنزعته الصادقة إلى الزهد؛ إلى المسيحية، إلى حد كبير.

والمستشرق آدم مينز (توفي سنة 1917م) الذي يُرجع نشأة التصوف إلى أصل غير إسلامي، حيث يقول: كان أول ظهور طوائف الصوفية حوالي عام 200 هـ وذلك في مصر، مهد الرهبنة المسيحية، "ففي عام 200 هـ ظهرت بالإسكندرية طائفة يُسمون الصوفية، يأمرون بالمعروف، ويعارضون الوالي في أمره، وترأس عليهم رجل منهم يقال له أبو عبدالرحمن الصوفي".

كما يقول منز: إن أركان التصوف ثلاثة: التوكل، والولاية، وتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والثلاثة متأثرة بالمسيحية، كما يستدل "منز" للأثر المسيحي كذلك بالخوانق الصوفية، وأن نظام الخوانق كان موجودًا قبل ظهور الصوفية، (لعله يقصد الأديرة المسيحية!).

كما يقول "آدم منز" إن الصوفية تأثروا بالغنوسطيين، وأخــــذوا عنهم فكرة "الفنـــــاء" الصوفية، تلقاها ذو النون المصري عن الغنوسطيين المصريين (الغنوسطية: هي فلسفة في المسيحية، تُفسر بمعان مختلفة كالمعرفة، أو التنوير، أو الخلاص، والتحرر، وتدعي أنه يمكن الوصول إليها من خلال ممارسة الخير والزهد، والتبتل، ومساعدة الآخرين) وأبو سعيــــد الخـــــــزار (تـ 277 هـ) وهو تلميذ ذي النــون المصـري (تـ245هـ) أول مــن تكلم في الفناء، وهـو من أقوال الغنوسطيين الأولى.

والمستشرق جولد تسيهر (توفي سنة 1921م) الذي قسم التصوف إلى مرحلتين، ويقول أنه في مرحلته الأولى (الزهد) تأثر بالرهبانية المسيحية، وفي مرحلته الثانية تأثر بالأفلاطونية الحديثة، والبوذية .

كما يقول "جولد تسيهر" : باقتباس صوفية الإسلام فقرات من الأناجيل، والاستشهاد بها في الحِكَم التي تحث على الزهد، وقد حاكى الزهاد المسلمون وعُبادهم نساك النصارى ورهبانهم، فارتدوا الصوف الخشن .

والمستشرق رينولد نيكلسون، الذي يقول: إن النصرانية هي مصدر التصوف الإسلامي، مدللا على رأيه بعدة أمور، منها: دعوى معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم براهب مسيحي، تأثر به، وأخذ عنه، نظرية المعرفة الصوفية مأخوذة عن الغنوصية المسيحية، الخوانق تشبه الأديرة المسيحية، أخذ صوفية الإسلام الزهد عن رهبان النصارى، وارتدوا الصوف مثلهم، ومجالس الذكر ومبدأ التوكل مأخوذان عن المسيحيين .

والمستشرق جوستاف فون جرونيباوم (توفي سنة 1972م) الذي يُرجع أصل التصوف إلى مصدرين: المصدر النصراني، والأفلاطونية الحديثة، يقول "جرونيباوم": إن زهاد الإسلام تأثروا بزهاد النصارى، كما يتحدث عن الزهد في الدنيا على أنه طلب للخلاص.

كما يقول بهذا الرأي كذلك المستشرقون: فنسنك، وأندريه، وأوليري.

تحليل نظرية المصدر المسيحي:

إن القول برد مصدر التصوف الإسلامي إلى أصل مسيحي، من النظريات التي دار حولها المستشرقون كثيرا.

وللتدليل على بطلان هذا الرأي نقول: استقى المسلمون مبادئ التصوف من المعين الأول للإسلام: القرآن الكريم، والسنة النبوية، واستخرجوا منهما معاني التصوف الجميلة، فمصدر التصوف إسلامي؛ لأن أصوله العقيدية، والسلوكية، مستمدة من نصوص الكتاب، والسنة، وحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحياة الصحابة رضي الله عنهم فقد استمد الزهاد زهدهم، واستقى الصوفية أذواقهم، من تلك المصادر.

ومن قال بالمصدر النصراني فهو مجاف للصواب، إذ لا يستطيع أحد أن يجزم بأن مصدر التصوف، والحياة الروحية في الإسلام إنما هو نصراني صرف .

والصوفية قد قبلوا الآخر بثقافته، ودينه، يقول د/عبدالرحمن بدوي: إن الصوفية المسلمين لم يجدوا حرجًا من الاستماع إلى مواعظ الرهبان، وأخبار رياضتهم الروحية، والاستفادة منها – رغم أنها صادرة عن نصارى – ونجد كثيرًا من أخبار رياضات الرهبان وأقوالهم في ثنايا كتب الصوفية المسلمين، وطبقات الصوفية، وليس معنى استماعهم لهم أن نُرجع أصل التصوف إلى أقوال الرهبان، إذ هو تمحل بعيد، وأمر لا يقره العقل، ولا التاريخ ولا الواقع .

ويحاول أصحاب هذه النظرية القول بتأثر الصوفية بحياة المسيح عليه السلام ، ورجوع أصول التصوف إلى البيئة العربية، أقرب إلى العقل والصواب، يقول د/ طلعت غنام: لماذا يقصر الباحثون أنظارهم على حياة المسيح عليه السلام وأقواله، والرهبان، وأحوالهم، حين يحاولون ربط الصوفية بالمصادر النصرانية؟ ولم لا يجوز أن يكون هذا التصوف أيضًا كان مسايرة لطبيعة الحياة العربية الجاهلية، وقد كانت حياة خشنة، لا ترف ولا نعومة فيها، بحيث يمكن أن يقال: إن حياة الزهاد والصوفية في الإسلام إنما هي استمرار لهذه الحياة الخشنة، فلماذا لا يكون التصوف نابعًا من البيئة الإسلامية العربية الخالصة، وهي بيئته التي نشأ فيها !

كما أن الذكر: من أصول الإسلام، وأما الزهد: فقد ورد الحث عليه في السنة النبوية، وعلى هذا؛ يقول د/ عبدالفتاح محمد: إن ما يزعمه بعض المستشرقين، من أن الفقر، والزهد، والذكر، أمور أخذها المسلمون من المسيحية، فهذا وهم؛ لأن القرآن الكريم، والسنة النبوية فيهما الكثير من الآيات، والأحاديث التي تدعو إلى الزهد، وعدم الركون إلى الدنيا وملذاتها، وفيها ما يدعو إلى الذكر، ويحث عليه، مما يدل دلالة صريحة على أن لهذه الأمور مصدرًا إسلاميًا صريحًا، فالتصوف ثابت في القرآن والسنة، نابع عنهما.

وهكذا: يتبين لنا خطأ المستشرقين في هذه القضية، إذ إنهم لم يستوعبوا أن يكون عند صوفية الإسلام هذا المذهب الصوفي الخالص، والنضج الفلسفي الذي يصوغون به مذهبهم، فراحوا يحاولون إلصاق التصوف بالمسيحية، بأي شكل، حتى جاء نقدهم مبالَغًا فيه، محاوِلا تجريد التصوف من كل خصائصه، وردها إلى المسيحية.

يتبع ....

المراجع

أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية، تأليف: ميجل آسين بلاثيوس ، ترجمة: جلال مظهر.

تراث الإسلام، تصنيف: جوزيف شاخت، كليفورد بوزورث، د/ حسن نافعة ترجمة: د/محمد زهير السمهوري، د/حسين مؤنس، تعليق وتحقيق: د/شاكر مصطفى .

تراث الإسلام، تأليف: جمهرة من المستشرقين بإشراف: توماس آرنولد، ترجمة: جرجس فتح الله .

الصوفية في الإسلام، رينولد ألين نيكلسون ، ترجمة/نور الدين شربيه .

في التصوف الإسلامي وتاريخه، رينولد ألين نيكلسون، ترجمة د/ أبو العلا عفيفي .

الحضارة الإسلامية ومدى تأثرها بالمؤثرات الأجنبية ، فون كريمر ، ترجمة د/ مصطفى طه .

الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم منز، ترجمة: محمد عبدالهادي أبو ريدة  .

العقيدة والشريعة في الإسلام "تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي"، تأليف: إيجناس جولد تسيهر، ترجمة: د/محمد يوسف موسى، علي حسن عبدالقادر .

حضارة الإسلام، جوستاف فون جرونيباوم .

تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني د/ عبدالرحمن بدوي .

التصوف بين الغزالي وابن تيمية د/ عبدالفتاح محمد سيد .