السنة الثالثة ربيع الأنور 1445 هـ - أكتوبر 2023 م


خالد محمد غز
الروحانية في زمن التكنولوجيا (1)
خالد محمد غز

هذه سلسلة مقالات نشرت بالأصل في كتاب بنفس العنوان للمؤلف

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائل عن نفسه الشريفة : ( أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها فمن أراد العلم فعليه بالباب )[1]

   تشرفت بالاستماع إلى طرح شيخنا فضيلة الإمام الدكتور/ علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء - حفظه الله تعالى - بشأن مدى تأثير المستجدات الحديثة المتمثلة في التكنولوجيا والمعدات والأدوات ، وما أنتجته هذه التكنولوجيات من انبعاثات معلومة ومعروفة، ومن بينها الموجات الكهرومغناطيسية على روحانية الإنسان، وقد أبدى فضيلته تساؤلاً عن شكل وطبيعة ذلك الأثر على روحانية الإنسان وعلى حواسه فوق الطبيعيَّة ؛ مثل الحدس والشفافية والصفاء الروحي الذي كنا نتنسمه في الماضي عند العبادة والذكر.

وأفاض فضيلته في هذا الجانب وأورد مثالاً على أمر يدلل على تلك الفرضية، فذكر أن مشايخنا قد غيروا عوائدهم في الذكر بدعوى أن هناك شيئًا لم نعرفه أو لم يفصحوا عنه، ومنهم من اجتهد فقال: إن الدنيا تغيرت، والأمر أصبح فيه ثقل ما، ومنهم من قال: إن المهدي قرُب ظهوره وهو ما دفع مشايخ التربية في النهاية إلى زيادة عدد الذكر بالتدريج؛ ليصل في النهاية إلى مائة ألف مرة للاسم الواحد من أسماء الله الحسنى الثلاثة عشر والتي على مدارها غالبية الطرق الصوفية في سبيلها لترقية النفس وتزكيتها، وتساءل فضيلته عما إذا كان ذلك الثقل وهذا التغير الكوني قد استشعره أهل الفيزيقا؟ وهل يدرج تحت ذلك اختلال أو اختلاف المغناطيسية الأرضية وظهور الانبعاثات والملوثات المتعددة، وظهور العلاج بالصيدلة الحديثة القائمة على الكيماويات التي كان لها من الآثار الجانبية التي أضرت بالمجمل بصحة الإنسان، والتي أدت إلى ظهور دعوات منها العودة إلى الطب البديل، ومنها دعوات للجوء إلى الباراسيكولوجي، وما وراء هذه المشاهدات من أجل الهروب إلى واقع جديد، ومن ذلك ظهور معلومات جديدة تتحدث عن الهالة البشرية وتأثرها بالحالة النفسية والحالة الروحية ونشوء دعوات الروحية الحديثة وتحضير الأرواح من أجل وبسبب هذا التغير الذي طرأ على البشرية؟

 ثم نوَّه فضيلته إلى أن هناك تغيراً ما حدث في الكون ربما يكون قد سبب اختلافاً ما بين الحاضر والماضي نجم عنه اختلالٌ أحدثه الإنسان ولا زال يحدثه وهكذا، وأن هذه الاختلالات تؤثر من طرف خفي غير مدروس على الإنسان بشكل عام، وعلى صفائه الروحي بشكل خاص، وقد تشرفت بتكليف شيخنا بالبحث في هذا الشأن.

 فبدأت مستعيناً بالله تعالى ومستمداً من بركات شيخي وسلسلة حضرته النورانية الواصلة حتى حضرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مدينة العلم في البحث والتأليف للكتاب الذي بين أيدينا الآن بعض مقالاته، والذي حاولت من خلاله الكشف عن التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للانبعاثات الكهرومغناطيسية التي نتجت عن التكنولوجيا والأجهزة والمعدات الحديثة على الحالة الروحية للإنسان.

 وقد ضممت بين دفتي الكتاب كافَّة العناصر التي رأيت أن لها تأثيراً ما على حالة الصفاء الروحي للإنسان، وهي الغذاء والعبادة فضممتها إلى العنصر الرئيسي في موضوع الدراسة والمتعلق بالانبعاثات الكهرومغناطيسية الناجمة عن التقنيات الحديثة بالإضافة إلى الناتجة عن الشذوذات الكونية، حتى يصبح الكتاب شاملاً جامعاً لكافة العناصر التي ارتأيت أنه إذا أعيد لها التوازن مجتمعة لعاد للإنسان صفاؤه الروحي مرة أخرى، ولقد جمعتها على هيئة مثلث سميته (المثلث الذهبي) كما سيأتي تفصيله لاحقاً.

منهج البحث:

في سبيلنا لإثبات وجود ثم علاقة تربط بين الزيادة في نسبة الإشعاع الكهرومغناطيسي الناتج عن التقنيات الحديثة في مجال الاتصالات والبث الإذاعي وغيرها من تقنيات ومعدات بالإضافة إلى ما طرأ من تغيرات على المغناطيسية الكونية من جهة وبين التدني الملحوظ في الحالة الروحية، أو الصفاء الروحي للإنسان خاصة خلال القرن الماضي، وعلاقة تغير النمط الغذائي للإنسان والمعيشي وأثر ذلك التغير كله على صفائه الروحي، فقد : 

1.       ألقيت الضوء على طبيعة الإنسان الجسدية والروحية وماهية العلاقة بينهما وأثر كلٍّ منهما على الآخر.

2.       جمعت بقدر المستطاع كل ما يتعلق بالحالة الكونية قبل نشوء التكنولوجيا الحديثة وما بعدها ورصدتها وبينت الفرق بينهما وأثر ذلك الاختلاف على الصفاء الروحي للإنسان.

3.       قمت برصد أهم الآثار السلبية التي نجمت عن التكنولوجيا والمستحدثات العصرية بأدواتها وأجهزتها، كذا التغيرات التي لحقت بالنمط الغذائي والمعيشي للإنسان.

4.        بينت أثر الذكر والعبادة على السلوك والأخلاق وعلى الحالة الروحية وجمعت الأدلة العلمية على ذلك. 

5.       أعطيت نبذة عن الروحانية الحديثة ونشأتها وعلاقتها بالكهرومغناطيسية.

6.       أدرجت بعض التوصيات التي من شأنها الإسهام في رفع الطاقة الإيجابية التي قد تعيد الصفاء الروحي للإنسان مرة أخرى في مواجهة ثقل الانبعاثات الناجمة عن التكنولوجيا الحديثة.

7.       وأدمجت في الجزء الثاني بعض الأبحاث التي تكمل ما سبق،  مما يؤسس لفكرة المطعم الطيب، وسبل اكتشافه، وكيفية توفير هذا، وقضية الاستحالة، والميتافيرس، وغير ذلك مما سيجده القارئ.

  ولنبدأ أولاً في استعراض الحالة التي كان عليها الكون في بداياته التي فطرها الله تعالى عليها وكيف غير وأفسد الإنسان في تلك الفطرة وما الذي عاد على الإنسان من سلبيات بسبب ذلك التغيير.

تهيئة الكون للإنسان :

 خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذا الكون لمهمة وكلفه بتكاليف محددة وهي عبادة الله ومعرفته وإعمار الأرض يقول تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات 56)

 {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود 61)

 ومن حكمته ورحمته تعالى جعل للإنسان من مقومات الحياة والمعيشة ما يعينه على أداء تلك المهمة وتنفيذ تلك التكاليف وزوده بخصائص ومقومات ذاتية تناسب ذلك التكليف فخلقه في هيئة معينة لتلائم تلك الوظيفة.

{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } (التين 4)

  وهيأ الله تعالى للإنسان المكان والبيئة التي سيمارس فيها مهمته وتكليفه على هيئة مخصوصة بميزان دقيق يتناسب مع المهمة التي كلفه تعالى بها وبما يتلاءم مع خصائصه وهيئته وقدراته التي خلقه الله عليها كي يؤدي تلك الوظيفة بلا معاناة وحتى يتفرغ لما خلق من أجله.

{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (الجاثية 13)

{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }  (القمر 49)

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر 19)                                                                           

   وهيأ تعالى له رزقه من طعام وشراب ودواء وكساء وحتى الحِلْيَة التي يتَزَيَّنُ بها خلقها له بما يتناسب أيضاً مع طبيعته وما فيه نفعه.

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (غافر 64)

{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}  (الأعراف 26)

 {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل14)

الإنسان يحاول تطوير معيشته:

  ومرت دهور تلو دهور كان الإنسان خلالها يستحدث الأدوات ويدخل على حياته أشياء غلب على ظنه أنها ستُطوِّر معيشته وترفع رفاهيته، وتَطوَّر الأمر حتى جاء القرن الثامن عشر الميلادي، فاكتشف الكهرباء والكهرومغناطيسية، واخترع أنظمة اللاسلكي والبث الإذاعي والآلات والمُعدَّات الحديثة التي نتج عنها مُلوِّثَات عديدة أثرت على الإنسان وأضرت بصحته وببيئته التي يعيش فيها، وقد كان من ضمن تلك الآثار وأخطرها انبعاثات الإشعاعات الكهرومغناطيسية التي أضرت به وعادت على صحته وروحانيته بالوبال، وليُحكِم الشيطان عليه الحلقة فيُدَمِّر بنيته وبيئته وصولاً لروحانيته كما سنُبَيِّن فإذا به يوعز إليه ليغير خلق الله في مطعمه ومشربه وغير ذلك مما يدخل جسده فأفسد طعامه عبر العمليات التصنيعية التي نزعت عنصر الطيبة منه، فاستحدث الزراعة بالكيماويات واخترع تقنيات التهجين والتخليق واستعمل الهرمونات والمواد المصنعة لإضافة الطعم والنكهة واللون الصناعي لغذائه وأدخل المواد الحافظة، فغيَّر بذلك وبدَّل بلا قيد أو شرط يضمن السلامة التامة والأكيدة لجميع تلك المُدخَلات بلا رادع من دين أو وازع من ضمير.

الإنسان يُخل بالتوازن الرباني للكون :

   ومن جراء ذلك فقد اختلَّ التوازن العام لحياة الإنسان الذي وضعه المولى تعالى ونقض الفطرة التي فطر الله الناس والكون عليها، وأحدث خللاً أنشأ ثقلاً وكثافة عليه مما أدى إلى اعتلال بنيته وتدني روحانيته حتى صار غير قادر على القيام بمهمته في إعمار الكون وعبادة ربه لخروجه عن الفطرة.

 وفي كتاب الله تعالى ما يشير إلى تلك المقدمات وما يحذر من تلك الأمور الشيطانية بل وما ينبه على خطورة ذلك المنحى ومآلاته، يقول عز وجل:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة 168)

تغيير خلق الله وموالاة الشيطان:

ويخبرنا تعالى بما توعد به الشيطان الإنسان محذراً ومنبهاً لنا فيقول:

{ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا } (النساء 119)

  فنفهم من ذلك كله أن تغيير خلقة الله تعالى وإخراجها عن طبيعتها التي هي من فطرة الله فيها نوع من موالاة الشيطان، وأن عاقبة ذلك الاختلال دوماً الخسران وليست المنفعة بالضرورة، ونفهم أيضاً أن الشيطان يوعز للإنسان ليفسد ذلك الميزان الرباني ليخرجه عن مهمته التي خلقه الله تعالى من أجلها أدرك ذلك أم لم يدركه ليذوق في النهاية وبال أمره جزاء فعله يقول تعالى:

{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ( الروم 41 )

الإنسان مطالب بإزالة كل ما يفسد عليه صحته ويشوش روحانيته:

فكان لزاماً على الإنسان كي يستعيد توازنه الصحي والروحي مرة أخرى أن يحافظ على ما تبقى له وأن يحاول استعادة ما فقده مما وهبه الله تعالى من تلك النعم ليؤدي مهمته على الوجه الأكمل، فإن وجد ما يشوش عليه ذلك وجب عليه أن يدفعه عن نفسه بشتى الوسائل ففطرته تدفعه إلى ذلك بل والشرع يأمره بذلك فهو مطالب شرعاً بدفع الضرر عن نفسه بشتى الوسائل والسُّبُل، وقد ورد بالحديث الشريف عن السيدة عائشة (رضي الله عنها):

"أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في خَمِيصَةٍ لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي، وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال صلى الله عليه وآله وسلم كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني"، أخرجه البخاري في الصحيح.

 ودعونا ننظر ونتأمل هنا كيف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تخلًّص من خَمِيصَةٍ وهي ليست أكثر من قطعة قماش كان بها بعض النقوش لمجرد أنها شتَّتَتْ نظر حضرته الشريف للحظة عن التركيز في الصلاة، فما بالنا وقد تيقنا أن المُلوِّثَات والانبعاثات الصادرة عن التقنيات العصرية الحديثة وأشدها ضرراً الإشعاعات الكهرومغناطيسية التي تصدر عن المُعدَّات والأجهزة التي نستخدمها بدون رُشْدٍ أو ترشيد تلهينا بل وتؤثر على مشاعرنا ووعينا وروحانيتنا كما سنثبت في سياق الكتاب، مما يوجب علينا اتخاذ كافة الإجراءات والاحتياطات التي نتجنب بها آثار تلك الانبعاثات والتخفيف من حدتها على أجسادنا ومن وطأتها على أرواحنا.

   وحتى نُرسِي خطة لوقف النزيف الروحي لدى الإنسان في حاضرنا ونعيد ما افتقدناه من الصفاء الروحي فلابد من إعادة بناء ما تَهدَّم من صفائه الروحي عبر محاور ثلاثة.

  وهذا إن شاء الله ما سنستعرضه في مقالة قادمة...(يتبع)


[1] هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال إنه صحيح