السنة الثالثة جمادى الآخرة 1445 هـ - يناير 2024 م


خالد محمد غز
الروحانية في زمن التكنولوجيا (2)
خالد محمد غز

 قد استعرضنا في المقالة السابقة كيف أن الإنسان أفسد الفطرة الكونية التي فطره الله عليها عبر التغييرات التي أحدثها في شتى مناحي الحياة وعناصرها التي وضعناها وفي تلك المقالة سوف نفصل تلك العناصر ونبين كيف استخلصناها وآثارها من القرآن الكريم فهيا بنا نبدأ على بركة الله.

مفهوم المثلث الذهبي

 وبذلك يكون المُنطلَق إلى استعادة الصفاء الروحي مرة أخرى مُؤسَّساً على محاور ثلاثة (البيئة – النفس – الطعام)، وقد جمعتها للتبسيط على هيئة مثلث أسميته (المثلث الذهبي) ولكل محور من هذه المحاور تفاصيله كما يلي:

المثلث الذهبي

·        المحور الأول: البيئة السوية

وطريق الوصول إليها (عودة التوازن البيئي ومواجهة التلوثات بأنواعها المختلفة وبخاصة الإشعاعات الكهرومغناطيسية).

·        المحور الثاني: التغذية الصحية

وطريق الوصول إليها (الطعام والشراب والدواء الحلال والطيب).

·        المحور الثالث: النفس الزَكِيَّة

وطريق الوصول إليها (تلاوة القرآن والذكر والتفكر).

  وقد رَكَّزتُ في المحور الأول بشكل خاص على آثار الكهرومغناطيسية بالذات وبينت تأثيرها على الصفاء الروحي للإنسان، ثم ألقيت الضوء على التغذية الصحية وكيف تدعم الروحانية، وأوليت اهتمامًا بالنفس الزكية وبينت كيف يمكن أن يُعَزِّز الذكر وتلاوة القرآن النفس الإنسانية، وبينت كيف أن تكامُل تلك العناصر الثلاثة مهم في سبيل العودة إلى التوازن الروحي.

  ونبدأ خلال الأبواب التالية برصد التغيرات الكونية والبيئية والأخرى التي نشأت بسبب تغير نمط المعيشة ونبين آثارها على الإنسان.

إشارات إلى المثلث الذهبي من القرآن الكريم

ولو تأملنا في القرآن الكريم لوجدنا أنه قد ورد في سياق آياته الكريمة ما يشير إلى فكرة المثلث الذهبي التي افترضناها أورد منها عدة مواضع كريمة ثم أُعلِّقُ بما ورد إلى خاطري عنها من فهم:

الموضع الأول:

﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة:61]

 نلاحظ هنا أن الله تعالى قد أشار إلى العناصر الثلاثة التي افترضناها في حديثنا عن المثلث الذهبي، فنجد (المحور الأول) وهو (البيئة) ورد في قوله تعالى (اهْبِطُوا مِصْرًا) ، صاحب ذلك تغير نوع (الطعام) وتدنيه وهو (المحور الثاني) كما جاء في قوله تعالى: ﴿ مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ فكان ذلك التدنِّي في الطعام والمقترن بتدنِّي في المكان مآله ونتيجته تدنيًا في الروحانية وزكاة النفس وهي (المحور الثالث) ،كما ورد في قوله تعالى : ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾

الموضع الثاني :

﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة:58]

 نلاحظ هنا أن الله تعالى قد أشار إلى الثلاثة عناصر التي افترضناها في حديثنا عن المثلث الذهبي، فنجد (المحور الأول) وهو (البيئة) ورد في قول الله تعالى (هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ) والتي قيل أنها القدس الشريف،  وجاء ذكر (المحور الثاني) وهو (الطعام) في قوله تعالى ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ﴾ ثم يأتي (المحور الثالث) وهو الروحانية أو حال النفس الزكية في قوله تعالى ﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ وهي درجة الإحسان.

الموضع الثالث:

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾ [الكهف:60-63]

 انظر هنا وتأمل كيف جمعت الآيات الكريمات بين الثلاثة محاور الخاصة بالمثلث الذهبي، فالبيئة السوية (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ)، والتغذية الصحية (آتِنَا غَدَاءَنَا) وهو السمك كما ورد في سياق الآيات: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) ، والنفس الزكية هنا هي النفس التي اشتاقت إلى لقاء العارف بالله المرشد وهو سيدنا الخضر عليه السلام.

الموضع الرابع:

﴿نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى  * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا *  وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ۗ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖوَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف:13-19]

 انظر هنا وتأمل كيف جمعت الآيات الكريمات هنا أيضًا بين الثلاثة محاور الخاصة بالمثلث الذهبي، فالبيئة السوية (الكهف) والتغذية الصحية (أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا) والنفس الزكية في قوله تعالى (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) .

فتأمل معي:

كيف أن الطعام والمكان والحالة الروحانية كانت كلها عوامل مشتركة بين الحالات التي سبق ذكرها، فنجدها مرتبطة ومتتالية في كل الآيات والحالات، وكأن الله تعالى يريد أن يلفت أنظارنا إلى أهمية البيئة والطعام ودورهما في صفاء الحالة الروحية أو كدرها.

وفي المقالات القادمة سنبين بمشيئة الله تعالى كيف يؤثر كل عنصر من العناصر على الحالة العامة للإنسان وخاصة حالته الروحية وسنبدأ بالحالة البيئية الكونية والمجالات المغناطيسية الكونية فإلى لقاء .... (يتبع)