
الرؤية الفلسفية عند فضيلة الدكتور علي جمعة
د. وائل النجميأحد الأسئلة التقليدية في الثقافة المصرية: لماذا لا يتحقق التطور الحضاري الذي حلم به الرواد الأوائل؟ وعادة تنحصر الإجابة في لوم السلطة، والإشارة إلى تعصب وتحجر المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية؛ ويصبح الحلّ مِن منظورِ المُثقفِ المصري فرضَ رؤيته الثقافية - رغم تعدد الرؤى واختلافها - بنوع من السلطويّةِ على مختلف فئات الناس في الواقع، وإجبارهم على العيش وفقا لها؛ فيتم تغيير عادات الناس وسلوكياتهم بدون اقتناع منهم.
فالمهم في هذا الطرح أن يتحقق النموذج المعرفي الذي ينتمي المثقف له، حتى لو بُدونِ إقناعٍ لمن سينفذه، ونتيجة لهذه الرؤية تَصَادمَ المُثقّف أحيانًا مع القوى الاجتماعية، ومع السيادة القانونية، فوجد نفسه - وهو الداعي لاحترام القانون - تحت طائلته أحيانا؛ ليعود من جديد مستنكرا بعض المواد القانونية التي سمحت للمختلفين معه بمحاسبته وإدانته، وهو ما يعكس - من منظوري - تشوشا كبيرا حول المنهج والرؤية والطريقة التي حاول بها المثقفون المصريون على مدى العقود الماضية دفع المجتمع المصري لتجاوز أزمته الراهنة.
وأرى أنه طوال هذه الفترة لم تتم مراجعة حقيقية للخلل في الرؤية الثقافية التي حاولت سد الفجوة الحضارية؛ والنتيجة تتحول هذه الرؤية في النهاية إلى نوع من الاتهام المتبادل بين فئتين – فئة داعية لنموذج معرفي غربي النزعة، وأخرى داعية لنموذج معرفي تراثي النزعة -، بداخل كل فئة منهما تيارات كثيرة متباينة، إلا أن كل واحدة من الفئتين ترى المشكلةَ تحديدًا في الفئة الأخرى، وعلى نحو من اطلاق الشعارات يصبح «الدين» بين الفئتين هو المشجّبُ الذي يتم تعليق انتقاد كل فئة منهما للأخرى؛ فإما أن يكون التمسك به هو السبب في عدم القدرة على التحرك للأمام، أو أن البعد عنه هو السبب في عدم التحرك للأمام، وبغير وعي تُقدُّم كلَّ فئة منهما إما إنكارا لدور الدين في المجتمع، أو إنكارا لدور الثقافة في تطوير المجتمع ومواجهته لمشكلاته.
النقطة الأولى إذن هي تحديد جوهر الأزمة الراهنة، والتي يمكن أن أختزلها في أنها: «الفارق في أسلوب المعيشة والرفاهية وإنتاج واستخدام التكنولوجيا بتطبيقاتها المختلفة والمتعددة بين مجتمعنا والمجتمعات الأكثر قدرة على انتاج التكنولوجيا وتصدير تطبيقاتها المتنوعة»، ونلاحظ في هذه اللحظة الراهنة وجود تعددية في النماذج المعرفية، كل نموذج منها استطاع بطريقته مواكبة واحتواء التطورات التكنولوجية والمتغيرات العالمية، فأصبح هناك غرب وشرق حضاريين، نتيجة صعود قوى اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية جديدة بثقافات وانتماءات فكرية متنوعة مثل الصين والهند وروسيا ودول شرق آسيا وغيرها.
عند وضع كل هذا في الخلفية، يَبرز فضيلة الدكتور (علي جمعة) بوصفه أحد أصحاب المشروعات الثقافية ذات الرؤية الفلسفية المهمة التي يمكنها تجاوز الفجوة الحضارية بيننا وبين الحضارات الأخرى، وبمعنى أدق إنهاء الصراع بين النماذج المعرفية المتاحة، فتتكامل ثنائية الحداثة والتراث، الأصالة والمعاصرة كروافد تكمل بعضها بعضا، بدلا من محاولة كل نموذج منهما إلغاء الآخر، والقضاء عليه.
وإذا ما حاولنا فهم لماذا لم ينبته المثقفون إلى هذا المشروع؟ فقد تكون إحدى التفسيرات لما حال دون ذلك ما يلي:
1- كمية الأدوار الدينية والاجتماعية التي يمارسها فضيلة مولانا (علي جمعة)، مما يجعل المثقفين لا ينظرون له ذات النظرة لمن ينادون بالتنوير من المثقفين أنفسهم، الذين يقتصر نشاطهم على طرح المقالات واجراء الحوارات وفي أحسن الظروف يكون لهم دور أكاديمي فقط. أما فضيلة مولانا فقد تقلد العديد من المناصب المختلفة في المؤسسة الدينية الرسمية - التي يهاجمها المثقفون عادة – فكان فضيلته المفتي الرسمي لجمهورية مصر العربية، كما أنه عضو هيئة كبار العلماء بجانب كونه مؤسس الطريقة الصديقية الشاذلية، وعضوا في المجلس الأعلى للطرق الصوفية، وعضوا في مجمع البحوث الإسلامية، وعضوا بالمجمع العلمي، وبجانب ذلك يبرز دور مولانا الاجتماعي والتطوعي في العمل العام، وعضويته في البرلمان.ؤوهذا ما لم يعتده المثقفون في الشخصية الثقافية، التي ينحصر دورها في تصورهم في الندوات والكتابات والحوارات ورئاسة تحرير الصحف؛ لذا أقول: ربما كان لذلك دوره الذي جعل المثقفين لا يصلون لما في رؤية مولانا من تأسيس لمشروع ثقافي حضاري.
2- فضلًا عن الحملة الإعلامية الشرسة التي قادتها دول وأجهزة متخصصة في النَّيْلِ من فضيلة الدكتور (علي جمعة) بغية التعتيم على أفكاره، وتقليل تأثيره في نفوس الشباب المصري والعربي ؛ نظرا لما تمتع به مولانا العلامة من رؤية وطنية وحِسّ قومي مخلص أسهم في دحض مخططات الفوضى، ومواجهة تيارات التشدد والإرهاب؛ مع حُجَّة علمية رصينة وفهم وإدراك واعيين لأسس العلوم الدينية بما يعري تيارات التشدد والتطرف والإرهاب من أية أرضية إسلامية يقفون عليها، فلا يبقى بعد ردوده عليهم، وتحليل أفكارهم، سوى الوجه العفن للتعصب والتطرف والخيانة للوطن.
كل ذلك ربما جعلنا لم ننتبه للنموذج المعرفي الذي يشير إليه الدكتور (علي جمعة) بوصفه مُستنبطا من كلٍّ من: عقيدة المسلم، والرؤية الكلية للإنسان والكون والحياة؛ ليبني مذهبًا فلسفيًّا قائم على فكرة الإله المفارق، الخالق لهذا الكون لكنه غير متماهي فيه، ومن ثم فالله موجود، وهو موجد الوجود بكل مخلوقاته بما فيها نحن، وهو سبحانه قائم بذاته، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وهذه الرؤيةُ المُستمدّةُ مِن العقيدة السُّنيّةِ :(الأشعرية والماتريدية) الواضحة الغراء، التي تنزه الله تعالى على الشبيه والمثل، وهي العقيدة التي تتناقض مع الفكر المتشدد الذي يرفض منهج أهل السنة والجماعة، ويصر على وجود الله بالجهة والمكان والحيز في الكون، وذلك تفسير قولهم الله موجود في السماء، وهي الخطوة الأولى التي أوقعت الفلسفية الغربية في التوجه نحو الإلحاد، فَرُويدًا مهدتْ لحُلول الخالق فيما خلق، ثم رويدا أعلن (نيتشه) موت الإله ولم تبق إلا الطبيعة من حول الإنسان بقوانينها الخاصة بها، دون أيَّةَ قوانين أخرى أو وصاية سماوية عليها؛ ليصبح الإنسان في مواجهة شهواته ورغباته ومواجهة جموح الطبيعة أيضا.
وكلا الفكرين: المقر بوجود الله مع هيئة وجسم ومكان وناحية، أو الذي ينفي وجود الإله، ينتج عنهما مشكلات في النواحي الأخلاقية والاجتماعية، ولم تنجح الدعوة لأي منهما لجعل أيًّا مِن هَذِه الرؤية سائدة لدى المجتمعات العربية.
وهنا يبرز نموذج فضيلة الدكتور (علي جمعة) بوصفه قادرا على حل المعضلات التي تواجه التحول للتقدم مع الاحتفاظ بسمت الهوية الإسلامية، ودون مخالفة الشريعة أيضا، مع التوضيح بأن أحكام الشريعة تتعرض في بعضها للتغير والتبدل والتطور مع مستحدثات العصر، وما ضربه فضيلة الدكتور (علي جمعة) – عندما كان مفتيا لمصر - نفسه من فتاوى مستندة لأسس العقيدة والسنة والفهم الأمثل للنص القرآني يحتاج بمفرده لعشرات المقالات والدراسات، وأنوه هنا بالمناظرة التي جمعت فضيلة الدكتور (علي جمعة) والأستاذ (أحمد عبد المعطي حجازي)، والتي عبر فيها (حجازي) عن انبهاره بفكر الإمام، وذلك ضمن حلقات برنامج (البيت بيتك).
إذن ليست المشكلة في أحكام يرى البعض أنها رافضة للواقع بقدر ما هي مشكلة الرؤية للواقع، وامتلاك أدوات تحليله - وهو أحد عناصر وأركان تجديد الخطاب الديني - ومن ثم اليقين المسبق بأن النموذج الغربي بعلمانيته المفرطة وإلحاده وتشكيكه وطعنه في ثوابت الإسلام سوف يدفع المجتمع للأمام، قد جانبها التوفيق مع كل محاولات تطبيقها في الواقع العربي والمصري، فقد أبصر الجميع فشلها في تحقيق مكاسب علمية واجتماعية كبيرة على أرض الواقع في ظل العقود الطويلة التي بدأت مع إرسال البعثات العلمية الكبرى لأوروبا منذ عام 1826م في عصر (محمد علي)، ليظهر الاحتياج على أرض الواقع لنموذجنا المعرفي الخاص بنا، القائم على استقراء واقعنا واستنباط الحلول المطابقة لخصوصياته.
وهنا تبرز أيضا مقولة الدكتور (علي جمعة) عن كتاب الله المسطور، وكتاب الله المنظور، بوصفها مصباحا يمكن أن يُنير الطريق، فبدلًا مِن مُعاداة الواقع في النموذج المدعي للتدين والغارق في التطرف، والذي يرغب في القضاء على كل مظاهر المدنية المعاصرة، والعودة بأساليب الحياة وعصريتها إلى ما كانت عليه أساليب الحياة ومعيشتها في عصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، دون إدراك منهم أن هذه الأساليب هي نفسها ما كانت موجودة في عصر الجاهلية، ومن ثم فليست المزية في أساليب المعيشة، وإنما في أخلاق النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فالإسلامُ لا يَرغب تجميدًا للواقع ولا يَفترضُ ذَلك، وإنما قِصر عقولهم عن إدراك مفهوم كتاب الله المنظور، الذي يأمرنا الله بالتأمل في خلقه من حولنا، وإعمار الكون على أحسن وأفضل ما يكون، ومن ثم يصبح التقدم العلمي والبحث والتجريب هو من مهام التكاليف الواجبة علينا، وليست أمرًا خارجًا عن المألوف، يصبح هذا التشدد والتحجر ناتجا عن سوء فهم لمراد الله في كونه، وعدم التعامل مع الواقع على أنه أيضا دال على وجود الله في كل لمحة وكل نفس، فلولا إمداد الله لهذا الكون بالوجود لفني وعدِم، ومن ثم فالكسل العقلي الذي استسلمت له الأمة العربية والإسلامية لقرون طويلة ليس له ما يبرره، وليس له أي أصل في الاسلام.
وهذه الرؤية تمتاز أيضا أنها تتفاعل مع الكون بمحبة، ولا تنظر للعناصر والذرات والمخلوقات على أنها مجرد أدوات لتحقيق غايات علمية قد لا تحكمها الجوانب الأخلاقية، وإنما تنظر لكل ذرة في الوجود على أنها ذات دلالة على موجد الوجود، فهي من صُنْعِه سبحانه، وأودع فيها من حكمته، ودورنا البحث عن هذه الحكمة، وتحقيق المنفعة والمصلحة للبشرية بما يضمن توازن الكون وعدم الطغيان في توازن عناصره، وهو ما يتوجه إليه العالم حاليا بعدما أدى الإخلال بالتوازن البيئي إلى تغيرات مناخية ضارة جدا.
إذن لدى فضيلة الدكتور (علي جمعة) منظور ثقافي قائم على فلسفة إسلامية مستمدة من الرؤية الكونية والطبيعية المنفتحة، والتعامل مع الواقع باعتباره مفردات دالة على وجود الله، واجبة الدراسة والتحليل والبحث في خصائصها، حيث إن هذا البحث يكمل ما ورد في كتاب الله المسطور – القرآن الكريم - وهي رؤية ينتج عنها اتساق واضح لا لبس فيه بين التدين – باعتباره التطبيق الشخصي والعملي للدين – والتحضر، وبين المفهوم الراقي للإسلام والتعامل مع مستحدثات العصر، مما يزيل الوهمين الكبيرين المسيطرين على الساحة الآن، وهما أننا لكي نستطيع أن نعيش التمدن والتحضر فنحن بحاجة لإزالة أحكام الإسلام والشريعة ونعيش بغيرها، وهو الوهم الذي منبعه رغبة استيراد نماذج معرفية غير صالحة لواقعنا الثقافي ولا متسقة مع القيم الدينية ولا حتى الأخلاقية الخاصة بنا.
أو وَهْم أننا لكي نستطيع أن نعيش الإسلام علينا أن نهجر هذا العالم الذي نعيش فيه، ونعود لعصر الصحراء، وعالم الناقة والخيمة حتى ننجو بديننا من الفتن اللازمة والمقترنة بالمستحدثات والمتغيرات التكنولوجية التي يشهدها عصرنا الراهن، وكلا الرؤيتان هما نوع من الكسل العقلي والهروب من واجب الوقت الذي يحتاج للمزيد من الجهد والدأب والسعي، والحل هو المزيد من الاستبصار لرؤية وفكر ومقولات فضيلة الدكتور (علي جمعة) عن خصائص عقلية المسلم في هذا العصر والزمان، والتي من أبسط سماتها القدرة على التعامل مع كافة المتغيرات والمستحدثات بما يحقق النفع والفائدة والمساواة والمواطنة للبشرية جميعها، فيصبح الباب مفتوحًا لحالة جديدة من حالات الحوار مع الأفكار والرؤى الثقافية والعلمية العالمية، وهو محل دراستنا القادمة المستفيضة إن شاء الله، أطال الله في عمر فضيلة الدكتور الإمام (علي جمعة) ونفعنا بعلومه في الدارين.