
السادة الصوفيَّة وأسانيدهم العليَّة (1)
أسامة محسن"سماع الحسن البصريّ من سيدنا عليِّ بن أبي طالب"
الإسناد من أعظم خصائص هذه الأمة المُحمَّديَّة، ومن أكبر منن الله عليها، والتي تميزت به دون غيرها من الأمم، قال الحافظ أبو علي الجياني: "خصَّ الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يُعْطِها مَنْ قَبْلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب"، وقال عبد الله بن المبارك : "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"، وقد بدت أهمية الإسناد في تحقيق الأحاديث والأخبار، ومعرفة الرواة الناقلين لها، وبالإسناد حُفظت السنة وصانها الله من التحريف والوضع، والزيادة والنقصان؛ فحصل الأمان والاطمئنان إلى صحة النَّص الشرعيّ المنقول في القرآن الكريم والذي نُقل إلينا من خلال أسانيد القراءات، أو في السُّنة النبويَّة الشَّريفة والتي نقلت إلينا من خلال أسانيد الأحاديث، أو في الفقه والذي نقل إلينا عبر المذاهب الفقهيَّة، وهكذا في سائر العلوم، وهكذا كان الأمر في التصوف فلم يكن ابتداعًا في الدين كما يقال عنه، يقول سيِّدي الإمام العلَّامة شيخ الطريق وإمام أهل التحقيق نور الدين علي جمعة : "وهنا تأتى الدلالة المهمة في مسألة سلاسل الطرق، والتي حرصت عليها عامة الطرق الصوفية، وهي أنَّهم يريدون أن يعطونا إشارة إلى أنَّ الطريق نقلٌ واتباعٌ واقتداءٌ، وليس هو بأمر عقلي، ولا مخترع"، فكما وصل إلينا الإسلام والإيمان بسندٍ متصلٍ فقد وصل إلينا الإحسان بسندٍ متصلٍ رجاله مقامهم عالٍ كالشموس يستنير بهم السالكين في طريقهم لربِّ العالمين ﷻ ، فاهتم السادة الصوفيَّة بمسألة الإسناد في الطريق إلى الله ﷻ أشدَّ اهتمام، لكن معيار الإسناد عندهم وضابطه هو: الصحبة التي تُنتج الاقتداء والمتابعة، والتي من خلالها يأخذ الشيخ بيد المريد؛ فيحصل الاتصال من شيخ عن شيخ إلى منتهى السند حيث السند الأعظم للعالمين سيدنا محمد ﷺ ، يقول الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر سيدي محي الدين ابن عربي في فتوحاته : "اعلم أنه قد صحَّ وثبت بحكم النقل عند المشايخ، أنَّ عليًّا أمير المؤمنين دخل على رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، دُلَّني على أقرب الطرق وأفضلها، فقال رسول الله ﷺ: عليك يا علي بما نلت ببركة النبوة، فقال عليٌّ: ما هذا يا رسول الله؟ قال ﷺ: ذكر الله تعالى، قال عليٌّ: يا رسول الله، هكذا فضيلة الذكر وكل الناس ذاكرون. قال رسول الله ﷺ: مه يا عليّ، لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله الله، ثمَّ قال: أحصيت، يا علي، حتى أنا أقوله ثلاث مرات وأنت تسمع مني فإذا أمسكت فقل أنت حتى أنا أسمع منك. هكذا لقَّن رسول الله ﷺ عليًّا، ثمَّ لقَّن عليٌّ عليه السلام الحسن البصريَّ، ثمَّ لقَّن الحسن حبيبًا العجميّ، ثمَّ لقَّن حبيب داودَ الطائيّ، ثمَّ لقَّن داود معروفًا الكرخيّ، و لقَّن معروف سريّ السَّقطيّ، وهو لقَّن أبا القاسم: الجنيد بن محمد البغداديّ وعلى هذه السلسلة باقي المشايخ رحمهم الله".
لكن أنكر بعضُ العلماءِ سماع الحسن البصريّ من الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكرَّم وجهه، مما يعني أنَّ الطرق الصوفيَّة -وليس التصوف- منقطعة الإسناد، وبالتالي فقدت هذه الخصِيصة التي هي الاتصال، والتي تحقق الأمان في السير، وأنَّ النموذج السلوكيَّ المعروف بالطَّريقة الصُّوفيَّة -والتي تكوَّن منها مدارس التَّصوف- ليس لها إسنادٌ، وكل أركان هذه الطريقة من العهد والشيخ المربي وتلقين الذكر والمريد ولبس الخرقة ليس لها أصلٌ يرجع إليه أو سندٌ يعتمدُ عليه، لكنَّ الحافظ المحدِّث الفقيه جلال الدين السيوطيّ رحمه الله تعالى أثبت سماع الحسن البصريّ من عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وتبعه في ذلك الفقيه المحدِّث الحجَّة أحمد بن حجر الهيثميّ المكيّ رحمه الله تعالى، فقد سُئل الحافظ ابن حجر الهيثمي نفع الله بعلومه: هل سمع الحسن البصريّ من كلام عليٍّ كرَّم الله وجهه، حتى يتم للسَّادة الصوفيَّة سندُ خرقتهم وتلقينهم الذكر المروي عنه عن عليٍّ كرم الله وجهه؟ فأجاب بقوله: "اختلف الناس فيه، فأنكره الأكثرون، وأثبته جماعة، قال الحافظ السيوطيُّ: وهو الراجح عندي كالحافظ ضياء الدين المقدسيّ في المختارة، والحافظ شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانيّ في أطراف المختارة لوجوه، الأول: إنَّ المثبت مقدم على النافي، الثاني: إنَّه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وميز لسبع وأمر بالصلاة؛ فكان يحضر الجماعة ويصلي خلف عثمان إلى أن قتل، وعليٌّ إذ ذاك بالمدينة يحضر الجماعة كل فرضٍ، ولم يخرج منها إلا بعد قتل عثمان، وسنُّ الحسن إذ ذاك أربع عشرة سنة، فكيف ينكر سماعه منه مع ذلك، وهو يجتمع معه كل يوم بالمسجد خمس مرات مدة سبع سنين؟!، ومن ثَمَّ قال علي بن المدينيّ: "رأى الحسن عليًّا بالمدينة وهو غلام"، وزيادة على ذلك: إن عليًّا كان يزور أمهات المؤمنين، ومنهن أم سلمة والحسن في بيتها، هو وأمه خيرة إذ هي مولاة لها، وكانت أم سلمة رضي الله عنها تٌخرجه إلى الصحابة يباركون عليه، وأخرجته إلى عمر رضي الله عنه فدعا له : "اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه وحببه إلى الناس" ذكره المزيّ، وأسنده العسكريّ، وقد أورد المزيّ في التهذيب من طريق أبي نُعيم: أنَّه سُئل عن قوله: قال رسول الله ﷺ ولم يدركه؟ فقال: كل شيءٍ قلته فيه فهو عن عليّ؛ غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليًّا، أي زمان الحجاج، ثُمَّ ذكر الحافظ أحاديث كثيرة، وقعت له من رواية الحسن عن علي كرم الله وجهه. وفي بعضها ورجاله ثقات قول الحسن: سمعت عليًّا يقول: قال رسول الله ﷺ : " مثل أمتي مثل المطر..." الحديث. اهـ
قال أبوزرعة : "كان الحسن البصري يوم بويع لعليٍّ ابن أربع عشرة سنة، ورأى عليًّا بالمدينة ثم خرج علي رضي الله عنه إلى الكوفة والبصرة ولم يلقه الحسن بعد ذلك"، ومن هذه الرواية حمل العلماء قول النافي لسماع الحسن البصري من سيدنا عليٍّ على ما بعد خروجه من المدينة وبهذا يزول الإشكال ويرتفع، ويكون الجمع بين القولين متحققًا والحيثيَّة التي تجمع بين صحة قول المثبت والنافي لسماع الحسن البصريّ عن سيدنا عليٍّ كرَّم الله وجهه هو (خروج سيدنا عليّ _كرم الله وجهه_ من المدينة إلى الكوفة) فقد كانت كالحد الفاصل بين السماع وعدمه، فما قبل هذا الخروج كان سماع الحسن البصري من سيدنا علي وبعد خروجه لم يسمع الحسن البصري من سيدنا عليٍّ شيئًا. (يتبع إن شاء الله)