
الاسم الأعظم
الشيخ. أيمن حمدي الأكبريالحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله، وبعد
فَإنَّ اصْطِلَاحَ الاسْمِ الْأعْظَمِ قَدْ فَشَا بَيْنَ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ، وَوَضَعُوا فِيهِ مُصَنَّفَاتٍ تَبْحَثُ في دَقَائقِهِ، وَسَنَدُهُمْ في ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ: "وَأسْألُكَ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكْ، أوْ أنْزَلْتَهُ في كِتَابِكَ، أو عَلَّمْتَهُ أحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أو اسْتَأثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الْغَيْبِ عِنَدك"، مِنْ هُنَا لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِالْمَشْهُورِ مِنْ أسْمَاءِ الإحصَاءِ، وَبَحَثُوا عَنِ الاسْمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أجَابَ، وَإذَا سُئلَ بِهِ أعْطَى؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُعْطي الْمُجِيبُ عَلَى الدَّوَامِ. وممن تكلَّمَ في الاسم الأعظم الشيخُ الأكبر محيي الدين ابن العربي، وهو مَن سوف أدور في هذا المقال في فلَكِ كلامه عن الاسم، وإن كان مفهومُهُ عَنْهُ أوسَع مِن أن نَحْصُرَهُ في هذا المَوْضِعِ، وبِخاصَةٍ أنَّه لَم يجْعَل للاسم الأعظم مبحثًا جامِعًا، بل تكلَّم عنه في مواضعَ متفرِّقةٍ مِنْ مُصَنَّفاتِهِ، وجَعل الكلامَ عنْهُ يَدُورُ بَيْنَ الإفشاء والكَتم، فَرَمَز المقصودَ الأصليَّ؛ وهوَ ما يحويه الاسم مِن جواهِر العِلْم.
ولَعلَّ أوَّل ما يستوقفنا في فهمه لما اصطلحوا عليه بالاسم الأعظم ما جاء في كتابه «الفتوحات المكيَّة» حيث قال: «ثم لَتَعْلَمْ أنَّكَ مِنْ جُمْلَةِ أسمائه، بل مِنْ أكمَلِهَا اسماً، حتى إن بعض الشيوخ وهو «أبو يزيد البسطامي» سأله بعضُ النَّاسِ عَنِ اسمِ الله الأعظمِ فقال: أروني الأصغر حتى أريكم الأعظم، أسماء الله كلها عظيمة، فأصْدُق وخُذ أي اسمٍ إلهيٍّ شئتَ.
ولقيت الشيخ «أبا أحمد بن سيدبون» بمرسية وسأله إنسان عن اسم الله الأعظم فرماه بحَصَاةٍ؛ يُشيرُ إليه: إنك اسم الله الأعظم؛ وذلك أنَّ الأسماءَ وُضِعَتْ للدلالةِ، فقد يُمْكِنُ فيها الاشتراك، وأنتَ أدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى اللهِ وأكبَرُهُ؛ فلَكَ أنْ تُسَبِّحَهُ بِكَ، فإنْ قُلْتَ: وَهَكَذَا في جَميعِ الْأكْوَانِ، قُلْنَا: نَعَمْ، إلَّا أنَّكَ أكْمَلُ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَأعْظَمُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأكْوَانِ؛ لِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ خَلَقَكَ عَلى صُورَتِهِ، وَجَمَعَ لَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِكَ مِنَ الموجُودَاتِ، فَإنْ قُلْتَ: فَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بالعَظَمَة، قُلْنَا: وَقَدْ وَصَفَكَ بِالعَظَمَةِ، وَنَدَبَكَ إلَى تعْظِيمِكَ، فَقَالَ: (( ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ )) [الحج: ٣٢] وأنتَ أعظمُ الشعائر، فيتضمن قوله تعالى: ((فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ )) [الواقعة: ٩٦] أنْ تُنَزِّهَهُ بِوُجُودِكَ وَبِالنَظَرِ في ذَاتِكَ، فتَطَّلِع عَلَى مَا أخْفَاهُ فِيكَ مِنْ قُرَّةِ أعْيُن، فأنْتَ اسْمُهُ العَظِيم». انتهى
وَقَدْ أوْرَدَ ابْنُ عَطَاءِ الله السَّكَنْدَرِيّ في كِتَابِه «لَطَائفُ الْمِنَنِ» حِكَايَةً عَنْ سَيِّدِي أبي الْحَسَنِ الشَّاذُلِي تُؤيِّدُ الْمَعْنى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِي، حَيْثُ قَالَ الشاذلي رضي الله عنه: «كُنْتُ يَوْماً بَيْنَ يَدَيّ الْأُسْتَاذِ ـ يَعْنِي شَيْخَهُ عَبْد السَّلام بن مَشيش ـ فَقُلْتُ في نَفْسِي: لَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَعْلَمُ الشَّيْخُ اسْمَ الله الْأعْظَمِ؟ فَقَالَ وَلَدُ الشَّيْخِ وَهُوَ في آخِرِ الْمَكَانِ الَّذِي أنَا فِيهِ: يَا أبَا الْحَسَنِ، لَيْسَ الشَّأنُ مَنْ يَعْلَم الاسْمَ الأعْظَمَ، إنَّمَا الشَّأنُ مَنْ يَكُونُ هُوَ عَيْن الاسْمِ، فَقَالَ الشَّيخُ مِنْ صَدْرِ الْمَكَانِ: أصَابَ وتَفَرَّسَ فِيكَ وَلَدِي».
وللشيخ الأكبر - رضي الله عنه وعنَّا به ـ كَلامٌ كثيرٌ في الاسْمِ الأعْظَمِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذكَرَهُ مَعَ تنبيهه بأنّ كلام الولي في الاسم الاعظم لا يعني معرفته الاسمَ ذاته، بل للاسم فيوضات وأنوار وتوجهات بأسرار، للعلماء بالله الكلام فيها بحسب ما قدَّرَ اللهُ لكُلِّ أحَدٍ (( وَتَرَى ٱلْمَلَـٰٓئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ )) [الزمر: 75] فمِنْ ذلك ما جاء في الفتوحات المكية، وهو قوله:
«الاسم الأعظم قد يكون ثمانية، ومئتان، وثمانون، وقد يكون ثمانية، ومئتان، وستة، وثمانون» هذا إذَا تَرَكَّبَ حِسًّا لَا مَعْنًى. انتهى ما ذكره ابن العربي ضمن جوابه على بعضِ أسئلة الحكيم رضي الله عنهما.
ولمَّا كان الاسم الاعظم دالًا بالضرورة على الذات قلنا باستئثار الحق به وعدم اطلاع أحدٍ من الخلق عليه إلا إن كانت دلالته على الذات من حيث مرتبة ما، كدلالة لفظ الجلالة «الله» على ذاته من حيث مرتبة ألوهيته تعالى، ثم تتعدد الأسماء الدالة على الذات بحسب تعدد المراتب بما لا يحيط به إلا الله، إذ معرفة الاسم الأحَدِي الجامعِ الدالِ على ذاته تعالى دلالة إحاطة محالٌ إلا عليه تعالى، ولا يعلم الله إلا الله.
ثم نرجع ونقول : لمَّا كان الاسم الأعظم دالًّا على الذات الأحدية من حيث مرتبة ما، هي أحديةٌ جامعةٌ أيضاً، عَلِمْنَا أن الشيخ الأكبر لم يقصد بما سبق عدداً، بل رَمَزَ معنى، فنَظَرْنَا فيما ذَكَرَ مِنَ العَدَدِ بحسب ما قَرَرَ أهْلُ هذا الشأن، فوجدنا قوله: ثمانية دالٌ على حَرْفِ «حاء»، ومئتان دالٌ على «راء»، وثمانون على «فاء»، ثم الستة في جملته التالية تدل على «واو»، فبان لنا أن مقصده الإعلام بأنَّ الاسم الأعظم قد يكون حرفاً أو حروفاً؛ من حيث ظاهره، فهو إما مركب أو بسيط فالمركب كذي الجلال والإكرام، والبسيط الله، وإن كان مركباً من حروف، وقد يدل الحرف الواحد على مرتبةٍ من مراتب الذات كقولك: «ن»؛ حين تقصد مرتبة علمه القديم الممدة للقلم الكاتب في لوح العالم ما يُملى عليه. ووراء ذلك ما لا ترقمه الأقلام ولا تحتمله الأفهام، وقد أشار -رضي الله عنه- إلى أنه قد يتركب حسًّا ومعنًى من عشرين وثلاثين بينهما أحدٌ، وأربعون؛ وتفسيره بحسب نفس النسق؛ لفظ "كامل". وسوف ينجلي معنى كون الكامل عبارة عن الاسم في جوابه على السؤال "السابع والثلاثون ومائة"، وهو: ما كسوته؟ يعني كسوة الاسم. الجواب: حالُ الداعي به المعنوي. وكسوته على الحقيقةِ حروفُه إذا أخَذْتَ الاسمَ مِنْ طریق معناه، فإن أخذته من طريق حروفه فحينئذ يكون كسوته حال الداعي به.
أما السؤال التاسع والثلاثون ومائة، ونصُّه: والحروف المقطعة مفتاح كل اسم من أسمائه، فأين هذه الأسماء؟ وإنما هي ثمانية وعشرون حرفًا فأين هذه الحروف؟ فجوابه بحسب ابن العربي: لأنه يفتح الحرف الواحد من الأسماء الإلهية أسماءً كثيرة لا يحصرها عددٌ، وذلك لأنه إنما يفتح أسماء الأسماء التي تتركب من الحروف بحكم الاصطلاح، وقد ثبت أن الحق متكلم، فقد سمَّى نَفْسَهُ مِنْ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِالكَّلامِ الَّذِي نَسَبَ إلَيْهِ وَيَلِيقُ بِهِ، وَهَذِهِ الأسْمَاءُ التي تَظْهَرُ عَنِ الْحُرُوفِ أسْمَاءُ تِلْكَ الأسْمَاءِ، فَلَوْ أنَّ الْحَرْفَ الْوَاحِدَ يَفْتَحُ اسْمًا وَاحِدًا لَكَانَ كَمَا قُلْتَ مِنَ التَّعَجُّبِ، ألَا تَرَى في الْأسْمَاءِ الْمَحْفُوظَةِ في الْعُمومِ كَالْمَلِكِ وَالْمُصَوِّرِ وَالْمَنَّانِ وَالْمُقْتَدِرِ وَالْمُحْيي وَالْمُمِيتِ وَالْمُقِيتِ وَالْمالِكِ وَالْمَلِيكِ وَالْمُقَدِّمِ وَالْمُؤخِّرِ وَالْمُؤمِنِ وَالْمُهَيْمِنِ وَالْمُتَكَبِّرِ وَالْمُغْني وَالْمُعِزِّ وَالْمُذِلِّ؛ فَهَذَا حَرْفٌ وَاحِدٌ افْتَتَحْنَا بِهِ كَذَا كَذَا اسْمًا إلَهِيًّا مَعَ أنَّا لَمْ نَسْتَوْفِ، ثُمَّ لِتَعْلَمَ أنَّ كُلَّ اسْمٍ في الْعاَلَمِ هُوَ اسْمُهُ لَا اسْمَ غَيْرِهِ، فَإنَّهُ اسْمُ الظَّاهِرِ في الْمَظْهَرِ، وَلَيْسَ في وسْعِ الْمَخْلُوقِينَ حَصْرهَا وَلَا إحْصَاؤها، وَجَمِيعُهَا مَفَاتِيحُهَا هَذِهِ الْحُرُوفُ عَلَى قِلَّتِهَا، وَلَكَ في اخْتِلَافِ اللغَاتِ أعْظَمُ شَاهِدٍ، وأسَدُّ دَلِيلٍ إنْ فَهِمْتَ مَقْصُودَ الْقَوْمِ.
وَأمَّا قَوْلُهُ: فَأينَ هَذِهِ الْحُرُوفُ؟
فَقُلْ لَهُ: في عَوَارِض الْأنْفَاسِ؛ يَعْرِضُ للنَّفَسِ الرَّحْمَانيِّ مَا يُحْدِثُ عَيْنَ الْحَرْفِ، وَيَعْرِضُ لِلْحُرُوفِ مَا يُحْدِث الأسْمَاءَ، فَأينِيَّةُ الأسْمَاءِ في الحُروفِ، وَأيْنِيَّةُ الْحُرُوفِ الْأنْفَاسُ، وَأيْنِيَّةُ الْأنْفَاسِ الْأرْوَاحُ، وَأيْنِيَّةُ الْأرْوَاحِ الْقُلُوبُ، وَأيْنِيَّةُ الْقُلُوبِ عِنْدِيَّةُ مُقَلِّبِهَا، وَأسْمَاءُ الْحَقِّ لَا تَتَعَدَّد، وَلَا تَتَكَثَّر إلَّا في الْمَظَاهِرِ، وَأمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَلَا يَحْكُم عَلَيْهَا الْعَدَدُ وَلَا أصْلُهُ الَّذِي هُوَ الْوَاحِدُ، فأسْمَاؤه مِنْ حَيْثُ هُوَ لا تَتصِف بِالوَحْدَةِ ولا بالكثرَةِ، فسُؤالُ الإمَامِ إنَّمَا هُوَ عَنِ الأسمَاءِ التي يَقَعُ بِهَا التلفظ في عَالَمِ الْحُرُوفِ اللفظية، ويقعُ بِهَا الرَّقْمُ في عَالَمِ الكتابَةِ، فَتَارَةً يُراعي الرَّقْمَ وَتَارَةً يُراعِي اللفظَ، وَأمَّا غَيْرَهُ فَيَجْعَل حُرُوفًا ثوالِثَ، وَهِيَ الْحُرُوف الفِكرِيَّة؛ وَهي مَا يَضْبُطُهُ الْخَيالُ مِنْ سَمَاعِ الْمُتَلفِّظِ بِهَا، أوْ إبْصَار الكَّاتِبِ إيَّاهَا.
وفي جوابٍ آخرَ أجابه ابن العربي على سؤال الحكيم الذي نصه: ما رأس أسمائه الذي استوجب منه جميع الأسماء؟ أجاب ابن العربي بقوله: الجواب؛ الاسم الأعظم الذي لا مدلول له سوى عين الجمع وفيه "الْحَيُّ الْقَيُّومُ" ولا بد، فإنْ قُلْتَ: فَهُوَ الاسْمُ "الله"، قُلْتُ: لَا أدْرِي؛ فَإنَّهُ يَفْعَلُ بالخَاصِيِّةِ، وَهَذِهِ اللفظْةُ إنَمَّا تَفْعَلُ بالصِّدْقِ؛ إذَا كَانَ صِفَةً للمتَلَفِّظِ بِهَا، بِخِلافِ ذَلِكَ الاسْمِ، وَلَكِنَّ الظاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الترمذي أنَّ رأسَ الأسْمَاءِ الَّذِي اسْتَوْجَبَ مِنْهُ جَمِيع الأسمَاء إنَّمَا هُوَ الإنْسَانُ الكبيرُ، وهو الكامِلُ؛ وإذَا كَانَ هَذَا فَهُوَ الأولى في طريقِ القَوْمِ أنْ يُشْرَحَ بِهِ رَأس الأسماء، فإنَّ آدمَ علَّمَه الله جميعَ الأسماءِ كُلِّهَا مِنْ ذَاتِهِ ذَوْقًا، فَتَجَلَّى لَهُ تَجَلِّيًا كُلِّيًّا، فمَا بقي اسمٌ في الْحَضْرَةِ الإلهيةِ الَّأ ظَهَرَ لَهُ فِيهِ، فعَلِمَ مِنْ ذَاتِهِ جَمِيعَ أسْمَاءِ خَالِقِهِ.
وفي جَوابِهِ عَن سؤال: مَا حُروفُه يَقُولُ الشَّيخُ الأكبَرُ: الألِفُ، ولامُ الألف، والواو، والزاي، والراء، والدال، والذال. فإذا رُكِّبَتِ التركيبَ الْخَاصَّ الذِي تَقُومُ بَهِ نَشْأةُ هَذَا الاسْمِ ظَهَرَ عَيْنُهُ، وَلَوْنُهُ، وَطُولُهُ، وَعَرْضُهُ، وَقَدْرُهُ، وانفَعَلَ عَنْهُ جَمِيعُ مَا تَوَجَّهَ عَلَيْهَ، هَكَذَا هُوَ عِنْدَ الطائفَةِ في الْوَاقِعَةِ، وَلَا تَنْقِلْ عنِّي أنِّي أعْلَمُهُ لِمَا ذَكَرْتُ فِيهِ؛ هَذَا لا يَلْزَم، فَقَدْ نَنْقل مِنَ الواقعَةِ وَالكشفِ جَمِيعَ مَا سَطَرْتهُ ولا يَلْزَم أنْ أكُونَ بِهِ عَالِمًا، وإنَمَّا قُلْتُ هَذَا لِئلَّا يُتوهم أنِّي مَا ذَكَرْتُه إلَّا عَنْ عِلْمٍ بِهِ، وَلَكِنَّ مَطْلَبى مِنَ الحَقِّ العبودَية المحضة التي لا تَشُوبها ربوبية، لا حِسًّا ولا معنى.
ابنُ العَرَبِيُّ إذًا لَا يَسْعَى إلى الظهورِ بمَظهَرِ العَالِمِ بالاسْمِ الأعْظَمِ الَّذِي تَنْفَعِلُ لَهُ جميعُ الأكوَانِ، وإنَّمَا يَنْقِلُ ما انكَشفَ لهُ مِنَ حقَائقِهِ المُشار إليهَا هَاهُنَا بِحُرُوفِهِ، وَهِي بطبيعةِ الحَالِ لا تَعْني لفْظَ الاسمِ، بَلْ هي إشارات لِمَا يتركب منْ معاني الاسم، حيث اشتركت هذه الحروف المرموز بها إليه، في تقديسها عن أن يلتصق بها حرفٌ لتنزهها من وجه أوليتها وقَبْليَّتها، بينما يرجع إليها كل حرف من وجه أخريتها؛ كما قال تعالى: (( وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ )) [هود: ١٢٣] وقال: (( وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُۜطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) [البقرة: ٢٤٥]، هذا من حيث تجلي هذه الحروف في عالم الكتابة. فإذا رجعنا إلى قول ابن العربي بأن كسوة الاسم عبارة عن حال الداعي به، علِمنا أن تركيبها عبارة عن تحقق الداعي بما حوته من الحقائق والمعاني؛ كما يتجلى في الألف الدالة على الذات والقيومية والتي هي مفتتح لأسمائه تعالى "الله، أحد، أول، أخر"، أمَّا لام الألف وهي "لا" فإشارة إلى تَعَشُّقِ اللام بالألف، وأول ظهورها في كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" ولها ظهور في النفي، وظهور في الإثبات في لام ألِف "إلا"، ثُم "الواو" ولها بحسب ابن العربي الاسم "رفيع الدرجات"، ولها التمام والكمال، ولحرف "الزاي" التنزيه، وله الاسم "الحي" ولَهٌ الزكي أيضًا، فإذا نظرنا إلى "الراء" أحالتنا إلى الاسم "الرحمن" والاسم "الرحيم" والاسم "الرب"، ولها من حيث مراتب العالَم الاسم "المصوِّر"، فلها الرؤية، ثم "الدال" التي تعطي الناظر إليها عِلْمَ الديمومةِ لله الدائم، ولها في المراتب الاسم المبين، وفي العالم الحقيقة الآدمية، وفي الإنسان الحواس، ولحرف "الذال" العظمة والجلال والاسم "المذل" وهو المُسخِّر لجميع الأكوان، ومقام الذل في العبد عظيم. فمن تركَّبت فيه هذه الحقائق ظهر عينُه وهي حقيقة عبوديته، ولونُه أي أحواله وأثاره، وطوله وهو أثره في عالم الأرواح، وعرضه أي أثاره في عالم الأجسام والصوَر، وقدره أي مقامه.
ويبدو أنَّ المعنى الذي ينجلي عن قربٍ من وراء هذا الكلام أن معنى الاسم هو الحي القيوم، أي أنَّ الاسم الأعظم هو الاسم الذي منه حياة كل حي، وبه قيامه، وأن مظهر الاسم قد تجلى في الاسم المفرد واللفظ المجرد؛ الله، وقد أشار ابن العربي وأمثاله إلى أنه اسم من أحد عشر حرفًا، وقد نرى بهذا في باطن الاسم المفرد إذا بسطنا حروفه، وهي: أ ل ف ل ام ل ام ف ا فهذا باطنه، أما باطن باطنه فلهم في استخراجه طرائق عن طريق العدد، ويسمونه روحَ الاسم، ويخرجون منه الحروف النورانية، ويخصون منها أحد عشر حرفًا، وجملتها أربعة عشر حرفًا، تسمى الحروف المقطعة في القرآن، وهذا مِن علوم الأولياء التي تعجز الأفكار عن إدراكها، وقد ذكر بعض أعلام هذه الطريقة السَّنِيَّةِ أن مجموع ما يتركب من هذه الحروف أربعون ألف تركيبًا، وأحالوا الطالب على الرياضات والمجاهدات وتلاوة القرآن والصلاة على سيد الأنام صلى الله عليه وآله وسلم، حفظًا له مِن التلفِ إنْ خاضَ بفكرِهِ فيمَا لا يحْصُل إلَّا وَهْبًا، والله مِن ورَاءِ القصد، لا ربَّ غيرَه.