السنة الثانية رمضان 1443 هـ - إبريل 2022 م


الشيخ. محمد يحي عبد النعيم
الصيام والأسرار الثلاثة
الشيخ. محمد يحي عبد النعيم

ابتدأ الله سبحانه وتعالى حديثه عن الصيام فى القرآن الكريم  بهذه الآية الكريمة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(

وقد جاءت هذه الآية في موقع عجيب جليل بحسب سياقها وسباقها، فقد سبقت بالحديث عن القصاص وأنه (حياة) ثم الحديث عن الوصية التي أمر الله بها عبادة المتقين الذين يتخلون عن الدنيا ومتاعها ببذلها لعباد الله تعالى حرصا منهم على أن هذا العمل الخيرى آخر ما يصدر منهم قبل مقارنة الملائكة في العالم العلوي،  ثم جاءت آية الصيام الجليلة لينتظم العقد ويكتمل البدر باكتمال منظومة التزكية الروحية، ويشير العلامة البقاعي إلى العلاقة بين آية الصيام وما قبلها من ذكر القصاص والوصية، فيقول:

"هذا مع ما للقصاص والوصية من المناسبة للصوم من حيث إن في القصاص قتل النفس حساً وفي الصوم قتل الشهوة؛ السببِ للوطء السبب لإيجاد النفس حساً وفيه حياة الأجساد معنى وفي الصوم حياة الأرواح بطهارة القلوب وفراغها للتفكر وتهيئها لإفاضة الحكمة والخشية الداعية إلى التقوى وإماتة الشهوة،  وشهره شهر الصبر المستعان به على الشكر، وفيه تذكير بالضّرّ الحاثِّ على الإحسان إلى المضرور،  وهو مدعاة إلى التخلي من الدنيا والتحلي بأوصاف الملائكة،  ولذلك نزل فيه القرآن المتلقى من الملك، فهو أنسب شيء لآية الوصية المأمور بها المتقون بالتخلي من الدنيا عند مقاربة الاجتماع بالملائكة، وختمها بالمغفرة والرحمة إشارة إلى الصائم من أقرب الناس إليهما فقال تعالى " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".

إن مراعاة التدبر لآيات القرآن  من خلال النظر والتدقيق في علم المناسبات التي تقع بين الآيات والسور جديرة بأن تبلغ بنا إلى فهم  دقيق مستقيم، واستبطان لدقائق القرآن الكريم.

لذلك، فإنَّ علم المناسبات بين الآيات والسور هو علم جليل دقيق،  بل هو من علوم الفتح التي قلَّ من تعرض لها من العلماء على كثرة تعرضهم لفنون القرآن المتنوعة.

والمناسبة ليست خاصة بترتيب السور وبيان الرابط المعنوي الذي يربط  السابقة  بلاحقتها ولا بين آية والتي تليها،   بل أيضا بين  مطلع الآية وآخرها أو بين صدرها وعجزها بل ومناسبة ذلك كله لمضمون الآية ومحتواها،  وهو ما يمكن أن نلحظه في هذه الآية الكريمة التي بين أيدينا، فقد وجدنا الصيام والأمر به جاء متوسطا بين الإيمان والتقوى،  فما هي العلاقة التي تربط الصيام بالإيمان والتقوي حتى جاء متوسطا بينهما؟ وهل هناك معنى مشترك بين الثلاثة من حيث حقيقة كل منهما؟

بدأت الآية الكريمة بتوجيه النداء لأهل الإيمان، وذلك لأن حُكْمَ الصِّيَامِ حُكْمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْأُمَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الرَّامِيَةِ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَرِيَاضَتِهَا، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحُ حَالِ الْأَفْرَادِ فَرْدًا فَرْدًا إِذْ مِنْهَا يَتَكَوَّنُ الْمُجْتَمَعُ. وافتتحت بـ"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" لِمَا فِي النِّدَاءِ مِنْ إِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِمَا سَيُقَالُ بَعْدَهُ.

 وفى تفسير روح البيان: قال أصحاب اللسان: يا حرف نداء،  وهو نداء من الحبيب للحبيب، و"أيها" تنبيه من الحبيب للحبيب، و"آمنوا" شهادة من الحبيب للحبيب.

وقال الحسن إذا سمعت الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا" فارفع لها سمعك، فإنه لأمر تؤمر به أو لنهي تنهى عنه، وقال الإمام جعفر الصادق "لذة في النداء أزال بها تعب العبادة والعناء"،   يشير إلى أن المحب يبادر الى امتثال أمر محبوبه حتى لو أمره بإلقاء نفسه في النار" وفي تفسير الشيخ الشعراوي: (الحق سبحانه يبدأ هذه الآية الكريمة بترقيق الحكم الصادر بالتكليف القادم وهو الصيام،  فكأنه يقول: « يا من آمنتم بي وأحببتموني لقد كتبت عليكم الصيام ».  وعندما يأتي الحكم ممن آمنت به، فأنت تثق أنه يخصك بتكليف تأتي منه فائدة لك، والإيمان هو التصديق، والتصديق فعل القلب وأفعال القلوب لا اطلاع للخلق عليها فهي سر بينك وبين ربك سبحانه، ولذلك فإن المؤمن ينبغي عليه أن يُظهر شعائر الإسلام،  وإلا فإن لم يُظهر الإسلام،  فإن إيمانه يكون بينه وبين ربه، إذا الإيمان سر بينك وبين ربك إن لم تظهره بالتزامك بشعائر الإسلام؛ لأن الإيمان "ما وقر في القلب وصدقه العمل".

وأما الصيام،  فهو في اللغة: الإمساك والكف عن الشيء والترك له، وفي الشرع: هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس، بنيّة من أهله، احتسابا لوجه الله، وإعدادا للنفس لتقوى الله.

وهو أيضا بينك وبين ربك، فقد يُظهر العبد الصيام والحقيقة غير ذلك، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وهو من أسرار قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "الصوم لي وأنا أجزي به". أخرجه البخاري ومسلم

والمعنى: الصيام مستحق لي ليس لغيرى ولم يعبد به سواي  ولا عبد به غيري، فأنا حينئذ أجزي به على قدر اختصاصه بي، وأنا أتولى الجزاء عليه بنفسي، لا أكله إلى أحد غيري من ملك مقرب أو غيره،  فأنا المطلع على صيام الصائم وأنا العليم بحاله في صيامه،  فأنا الذي أتولى جزاءه عليه،   ويظهر بذلك خصوصية الصوم من بين العبادات، وأنه أمر بين العبد وربه،فجاء ذكر الصيام مناسبا جدا بعد ذكر الإيمان،  ثم جاء الختام البديع للآية الكريمة "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" بَيَانٌ لِحِكْمَةِ الصِّيَامِ وَمَا لِأَجْلِهِ شُرِعَ.

لكن ما حقيقة التقوى؟ وما علاقتها بالصوم؟

التقوى من الوقاية وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، يقال وقيت الشيء أقيه وقاية ووقاء، والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف، هذا تحقيقه،  وصارت التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات لما روى: " الحلال بين، والحرام بين، ومن رتع حول الحمى،  فحقيق أن يقع فيه "،  قال الله تعالى: (فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }،  ونعرف أن معنى التقوى هو أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية، وأن نتقي بطش الله، ونتقي النار وهي من آثار صفات الجلال. وقوله الحق: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }؛ أي أن نهذب ونشذب سلوكنا،  فنبتعد عن المعاصي، والمعاصي في النفس إنما تنشأ من شره ماديتها إلى أمر مان  والصيام كما نعلم يضعف شره المادية وحدتها وتسلطها في الجسد، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم للشباب المراهق وغيره: « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ».

ويشير صلى الله عليه وآله وسلم إلى محل التقوى بقوله،  وقد أشار إلى صدره الشريف "التقوى هاهنا " ثلاث مرات، وذلك في حديث مسلم عن أبي هريرة "لا تَحاسَدوا، ولا تَناجَشوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بيع بعض، وكُونوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المسلم أخو المسلم: لا يَظلِمُه ولا يَحقِرُه، ولا يخذُلُه، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسْبِ امرئ من الشر أن يَحقِرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعِرضُه"،  ويدل على أن مكان التقوى هو القلب، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}،  وأخرج مسلم أيضا «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". إذن التقوى محلها القلب والقلب هو محل نظر الله سبحانه منك،  فلا اطلاع لأحد على قلبك، وما في قلبك هو سر بينك وبين ربك،  فناسب ذكر التقوى في ختام الآية التي جاء فيها الصيام متوسطا بين الإيمان والتقوى،   فكأن الآية تضمنت ثلاثة أسرار، سر الإيمان، وسر الصوم، وسر التقوى.