السنة الثانية ربيع الأنور 1444 هـ - أكتوبر 2022 م


مصطفى حسني
التخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
مصطفى حسني

من أصعب المشاعر التي يعيشها كثير من البشر هو شعور عدم الكفاية، أو بمعنى أدق أن يكون صغيرا حقيرا في عين نفسه لا يرى أنه كفؤ لإقامة بيت أو الاستمرار، في عمل أو حتى الحصول على احترام الناس له، حتى يتضخم هذا الشعور ويصل إلى إحساس الإنسان أنه لا يستحق أن يرحمه أو يقبله الله ... هذا الشعور الانهزامي كفيل بكسر الإنسان أمام أصغر تحديات الحياة.

الكبير صلى الله عليه وآله وسلم

لو تتبعت حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة لوجدت شيئا مكررا كان بالنسبة لصحابة رسول الله هو عين النعيم، فلن تجد إنسانا يتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلَّا ويشعر الإنسان تجاه نفسه أنه كبير وأنه محل للثقة و أنه مقبول محترم.

من أول نظرة الاحترام التي كانت تملأ عين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجاه الجميع، حتى قال أحد الصحابة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلينا جميعا في مجلسه حتى يظن كل أحد منا أنه أحب الناس إلى رسول الله.

 ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة، وجد من بعيد اثنان من الرجال يقفان فسأل من هؤلاء؟ قيل : هما لصان يُقال عنهم المهانان فاقترب منهما صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى الله، فقال: من أنتما؟ قالوا: نحن المهانان، قال: بل أنتما المكرمان ودعاهم إلى الله، فأسلما بعد أن رد إليهما إحساس القبول وأن الحياة تفتح ذراعيها لهم ليبدأوا بداية جديدة.

وها هو سيدنا عبد الله الذي كان يدمن الخمر ويؤتى به إلى رسول الله يقام عليه الحد كل فتره وجيزة وفي مرة جاء ليتوب من شرب الخمر، فلعنه أحد الصحابة بقوله: لعنك الله ما أكثر ما يؤتى بك مخمورا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تلعنه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله، فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللعنة وطمأن قلبه أنه صلى الله عليه وآله وسلم يرى ما في قلب هذا الصحابي من حب راسخ لله ورسوله، رغم ضعفه أمام هذا الذنب وكان هذا الموقف سبب في قوته وتوبته.

ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخيط ثوبا له يجلس على أريكة وعائشة رضي الله عنها تجلس على الأرض تصنع شيئا في البيت، فلما رأت العرق ينزل من جبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كقطرات اللؤلؤ قالت لو رأى الشعراء جبينك يا رسول الله لنظموا فيه شعرا، فوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثوب من يده وقبلها بين عينيها، وقال والله يا عائشة ما كافأتك مثل ما كافأتك، فكانه يقول لها هذه الكلمة سرت خاطري جدا، فلا أجد مكافأة لك على الفرحة التي أدخلتيها إلى قلبي.

 حتى إن أبا سفيان ولم يكن وقتها مسلمًا في فتح مكة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليستعطفه بعد خيانة كفار قريش العهد، فإذا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يراعي نفسية أبا سفيان، فيعطيه إحساس الزعامة وأن الناس في أمانه، والجملة المشهورة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فكأن أبا سفيان رضي الله عنه هو الذي أنقذ أهل مكة من جيش رسول الله الكبير.

حتى صغار السن كان النبي صلى الله عليه واله وسلم يملؤهم بإحساس الثقة وشرف المكانة، فلما كان عبد الله بن عباس صبيا صغيرا يجلس عن يمين رسول الله وكبار الصحابة يجلسون عن يساره وجيء بقدح فيه لبن، فشرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه -وما أعظمها من بركة حلت على هذا القدح-، ثم أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطي لجلسائه من اللبن فاستأذن أولا ممن يجلس عن يمينه وهو الصبي الصغير ابن عباس حتى يبدأ بالأشياخ الكبار الذين يجلسون عن اليسار، وكان المعروف بين الناس أن يبدا باليمين فاستأذنه أولًا فأبى سيدنا ابن عباس  رضي الله عنهما أن يعطي هذه البركة لأحد سواه وقال: بل أعطني يا رسول الله لأشرب بعدك، ونزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قول الصغير لأنه من حقه ثم شرب الأشياخ بعده من على اليسار.

 وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم مع الكبير والصغير يشعرهم بقيمتهم وأنهم يستحقون التوقير والاحترام. وهذا الشعور الذي يسمى شعور الكفاية هو الوقود الذي يحتاجه البشر ليستمروا في رحلة الحياة ويقاوموا تحدياتها وهم يثقون في أنفسهم وقدراتهم وصدق من قال: الكبير على الحقيقة؛ من إذا تعاملت معه: شعرت أنك كبير.