
التربية: (صناعة الاحترام)
منى خليل المنقوش"احترام القدرات وعدم المقارنة"
نصنع الاحترام بمعرفة من هم أولادنا، بمعرفة طبائع الأولاد؛ طبائعهم النَّفسيَّةِ والعقليَّةِ والجسديَّةِ، فنعرِفُ اختلافَاتِهم النفسيَّة؛ من حيثُ الخجلُ والحياء والجُرأةُ والشجاعة، من حيث اندماجُه في المجتمع وانقباضُه عنه، سُرعة غضبِه وحلمِه وابتسامته، وعبوسته ولطفه وحدته وتعبيره، أو كونه كتومًا لا يعبر عما بداخله.
ونتعرف على اختلافات قُدراتِهم العقليّة؛ مِن حيثُ سُرعةُ وبطءُ الاستيعاب، ومن حيث التفرقة بين العقول الأدبية والعقول العلمية، والفرق بين العقل المنطقي الفلسفي وآخر عملي مادي، وثالث حساس شاعري خيالي، ونتعرف أيضًا على اختلاف قدراتهم الجسدية، فالبنت تختلف عن الولد، كما أن البنات درجات والذكور أيضًا درجات في التكوين والقوة الجسدية التي تساعد على أداء المهام.
وهذا التعرف يُخرِّج لنا قاعدة مهمة، وهي: (عدم المقارنة).
وهنا أمر يجب أن أنبه إليه أن كثيرًا من الأهالي يَعرفون قدرات أولادهم، لكنَّهم يَأمَلونَ مِنهم أكثر من واقعهم وقدراتهم التي منحها الله لهم، فتجدهم يستدعون صورًا أخرى لأقاربهم وأصدقائهم، فيقولون لأولادهم: لم لا تكون مثل فلان؟ ولم لا تفعلين مثل فلانة؟
وأضرب مثالًا، إذا كان الولد أو البنت قدراتهم أن ينجحوا بدرجة 70%، وكان أولاد عمهم ينجحون بنسبة 95%؛ إذن أولادي ليس لديهم القدرة والمهارة لفعل ذلك، وبالتالي فإن هذه المقارنة سَتُفقدهم طاقتهم وهمتهم وإرادتهم لإنجاز مهمتهم التي هي النجاح بنسبة 70%، وبالتالي يشعُرون باليأس، وقد يترتب عليه الأسوأ وهو الرسوب في العام الدراسي؛ لأنه لا يشعر بالتقدير والاحترام لإنجازه ومجهوده، وكذلك لا يرى أن والديه يتفهمان قدراته، كما أن هذه المقارنة تَخلق عداوةً بين المُقَارن والمًقَارن به، فينموا شعور الغيرة غير الحميدة والحقد والحسد لمن قارنوه به؛ وهذا لأن الولد يرى لو أن المقارن به غير موجود لكان حاله عند والديه أفضل فيتمنى اختفاء من قارنوه بهم، وكل هذا يُفقده الثقة بنفسه، بل أبعد من ذلك إذ يفقده الثقة بوالديه، فيبدأ في الابتعاد عن والديه وعن التواصل معهم واستشارتهم، وهذا كله نتيجة ما تعرض له الطفل من إجهاد نفسي جرَّاء هذه المقارنة.
فإذا وجدنا أولادنا قد تلاشت مواهبهم وانعدمت طموحاتهم؛ فلنعلم أن سبب ذلك المقارنةُ بينه وبين غيره؛ لأن المواهب لا تنموا تحت الضغوط النفسية والقهر؛ فالمواهب تحتاج إلى جوٍّ صحيٍّ مثل النقاش والتحفيز والتواصل الآمن الخالي من تهميش ما أنجزه الأولاد.
وهناك جانب آخر من المقارنات المهارية سواء الذهنية العقلية أو الجسدية، فنجد ابنًا يُجيد مهارة الرياضة وينجح فيها، وثانيًا لا يجيد الرياضة، لكنه يجيد القراءة وسرعة التعلم، وثالثًا يجيد المساعدة في البيت أو شراء الطلبات للبيت، أو ينتبه للاحتياجات اليومية والأسبوعية والشهرية، مع أنَّ غيرَه لا يجد ذلك، فالله قد خَلق الناس مختلفين؛ ليتكاملوا لا لنقارن بعضهم ببعض فيحطم بعضهم بعضًا [وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119، فالمُقارنة بين الأبناء تدّل على عدم معرفة الآباء بمراد وحكمة الله من خَلق هذا الإبداع المتنوع المتكامل، والواقع بدون التنوع لا يكتمل، فنجد هذا التاجر البائع لما يصنعه المصنع الذي يمتلئ بالعمال، والعمال يحتاجون إلى مدير المصنع؛ ليدير لهم برنامج الإنتاج، وصاحب المصنع يحتاج للمواد الأولية التي يستوردها، أو يأخذها من المناجم التي تُخرج المواد والمعادن وكل هؤلاء يحتاجون إلى سائق النقل، وكل مؤسسة يحتاج موظفوها لبعضهم ولا يستغني أحد عن أحد وبدون البعض لن يتم عمل أو إنتاج، فمن نظر إلى عامل المخزن وقارنه بمدير المصنع لن يعرف أن المقارنة خطأ إلّا إذا سُرق المخزن.
ولنا في أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صورة توضح كل هذا، فتجدهم عليهم الرضوان متنوعي المهارات والمهام، فهذا سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه أفرض الصحابة وأعلمهم بعلم المواريث، وكذلك تعلَّمَ لغَات أهل عصرِه في مُدَّةٍ قصيرةٍ، فلا نُقَارنه بسيدنا أبي بكر رضي الله عنه، ونقول لسيدنا أبي بكر لماذا لم تتعلم اللغات كسيدنا زيد؟
وكذلك لا نقول لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه: لماذا لم تُؤذّن وتُحسن صوتَك بالآذان كسيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه؟ فكل قد خلقه الله لما أراده، ووضع فيهم من المهارات ما يساعدهم على ما أراده.
ولنا في نبينا صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، أسوة حسنة، فإنه مع أنه أفضل العالمين، فما كان يقارن نفسه بأحد من أنبياء الله عليهم السلام، بل كان ينهى عن ذلك، كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة في قصة الصحابي مع اليهودي الذي قال بأن سيدنا موسى أفضل العالمين، فاختصموا إلى سيدنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فغضب النبي وقال : (لا تُفَضِّلُوا بيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ)، وحكى منقبة لسيدنا موسى عليه السلام، ثم قال : (وَلَا أَقُولُ : إنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِن يُونُسَ بنِ مَتَّى عليه السَّلَامُ)
وأيضا ما أخرجه الإمام البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مَثَلِي ومَثَلُ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيانًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ مِن زَواياهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به ويَعْجَبُونَ له ويقولونَ: هَلّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ قالَ فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتَمُ النبيِّين ".
فجعل نفسه صلوات الله عليه كلبنة في بناء لا تتميز عن بقية البناء؛ لأنه كان في مقارنة مع إخوته الأنبياء، ومع كل هذا لم يمنع سيدنا النبي صلوات الله عليه أن يُظهر حقيقة أظهرها الله، وهي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل العالمين، إذ قال: فيما أخرجه الإمام ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري: (أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر).
وهذا هو قانون المدح والمقارنة، نذكر مناقب كل أحد منفردًا، وكأنه ليس مثله أحد، ويمتنع أن نقارن بين أحد وأحد، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم رفض المقارنة بينه وبين أحد من الأنبياء عليهم السلام، وعندما جاء ذكره هو مستقلًا عن غيره ذكر أفضليته على سائر الخلق بدون تعيين، والحمد لله رب العالمين.