
التصوف حالا ومآلا
د. فتحي حجازيالحمد لله وحده، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ووافر آلائه، وسابغ نعمائه، وواسع رحمته وأفضاله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الجليلان، مع البركات والطيبات على سيدنا ومولانا محمد المبعوث بالآيات والبيانات رحمة للعالمين، وهو الشفيع يوم الدين: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْـًٔا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ﴾ [الانفطار:١٩].
وعلى آله الأطهار والتابعين لهم بإحسان مع أصحابه الأخيار، والتابعين والأنصار، والأولياء والصالحين ما دام الليل والنهار، وشرفت بهم البقاع والأنهار، فاللهم اجعلنا منهم محبين، وبهم مقتدين، ومعهم يوم يبعثون ، وبعد.
فقد طُلب مني أن أكتب كلمة عن «التصوف»، ومن أنا حتى أكتب في هذا الميدان، وأسير مع هؤلاء الرجال الأخيار، ونحن في عصر ضعفت فيه الملكات الروحية، والقوى الجسدية، وقلّت فيه الأعمال الخيرية، وصارت حياة السابقين من أهل الله حديثًا يروى، وقصصا في المجالس للاعتبار، ولكن لن نستطيع كما أرى أن نحتذي حذو واحد منهم في هذا السبيل؛ لأن الفتن قد عمّت، والغفلات قد طمَّت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن سأكتب لعل واحدًا ينتفع بكلمة مما سطرت تكون سببا في عفو الله سبحانه وكرمه، فإن الله جلت حكمته يقبل القليل، ويثيب عليه الجزيل، وصدق الله العظيم: ﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰٓ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: ١٦٠].
فتعال معي أخي المؤمن لننظر في كلمة «تصوف» و«صوفي» في لغة القرآن أولا ؛ لأن اللغة العربية في أصلها بداية للمعاني الروحية، فاللغة تقول[1]: «صوّف النبات: ظهر عليه، مَا يشبه الصُّوف ، ثم يقال: تصوّف فلَان صَار من الصُّوفِيَّة، والتصوف: طَريقَة سلوكية قوامها التقشف والتحلي بالفضائل لتزكو النَّفس وتسمو الرّوح». و«علم التصوف» مَجْمُوعَة المبادئ والآداب التِي بها يتأدب هؤلاء الصوفية في حياتهم مع أنفسهم، والذين من حولهم حتى يأتيهم اليقين؛ أي: الموت، على حدّ قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: ٩٩].
ولو أنك جعلت الواو في نهاية الكلمة فقلت: «صفا»، وجدت المعنى السابق وزيادة، فيقال: صفا صفوا، وصفاء: خلص من الكدر، وصفا الماء كذلك صار رائقا، وصفا الجو اليوم: لم يكن به غيم، فهو صاف. ألا ترى معي أن المعاني متآلفة تدور حول التصفية والتحلية، وهذا ما يقال عند أهل الله تعالى: «التّخْلية والتّحلية»؛ أي يتخلى عن الرذائل، ويتحلى بالفضائل، وهذا ما جاء به سيد الأنام ومصباح الظلام، ورسول الملك العلام، إلى عباده المهتدين، ومن أراد السعادة في دنياه إلى يوم الدين.
وبهذا نستطيع أن نقول: إن الأصل في الكلمة يدور حول «التصفية»، وهذا ما فهمه العرب قبل الإسلام، ثم جاءت الشريعة؛ ﴿كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَالنَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: 1 ].
قال شيخنا الكردي في حد التصوف: «هو علم يعرف به أحوال النفس محمودها، ومذمومها، وكيفية تطهيرها من المذموم منها، وتحليتها بالاتصاف بمحمودها، وكيفية السلوك والسير إلى الله والفرار إليه».[2]
وهذا التعريف جامع مانع شامل لصورة التصوف عند أهل الله من الأولياء والتابعين ﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾[يونس:63].
وقد أنشد الإمام الجنيد[3]:
علم التصوف علم ليس يدركه.... إلا أخو فطنة بالحق معروف
وكيف يدركه من ليس يشهده .... وكيف يدرك ضوء الشمس مكفوف
فانظر أيها العاقل إلى المعنى الاصطلاحي واللغوي لترى لحمة النسب بينهما، فالصوفي من صفت نفسه من الكدر ، وامتلأ بالعبر، واستوى عنده الذهب والمدر، وهذا ما يقوله الأكابر منهم، لأنهم عاشوا مع الله أنقياء أصفياء فصارت الدنيا في أيديهم، ولم تصل إلى قلوبهم؛ لأن قلب الصوفي قد امتلأ بنور وذكر مولاه، فلا ينشغل بأحد سواه، ويعيش حياته مع الله حتى يخرج من دنياه إلى رحاب رحمة من تولاه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ * فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾[القمر:54-55].
وكان شيخنا الأستاذ الدكتور محمد يسري سيد زعير[4] -رحمه الله تعالى- يقول لي: «يا بني الصوفية أراحوا أنفسهم؛ لأنهم اعتصموا بالله وساروا في هذه الحياة، فما نظروا إلى متاع زائل، ولا إلى ابتلاء قائم، فالكل بيد الله، وما لنا من أحد سواه، بذلك استراحت نفوسهم، وعاشوا في عبادة ربهم حتى أتاهم اليقين».
لذا كان هذا الطريق «التصوف» مأخوذا من الله تعالى عن طريق المرسلين من أبينا آدم إلى سيدنا محمد خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. قال شيخنا صاحب التنوير: «واضعه الله تبارك وتعالى، وأوحاه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأنبياء من قبله، فإنه روح الشرائع، والأديان المنزلة كلها».[5]
وكان أستاذنا «محمد يسري» رحمه الله تعالى يقول: أُحب أن يُقَالَ «صوفي» لا «متصوف»، وهو صاحب لغة دقيق في البيان، ثم يقول: إن التاء في «تصوف» للافتعال، وأهل الله قد صفت نفوسهم، فلا يتكلفون فالأولى أن يقال: «صوفي» لا «متصوف»، وهذا فهم دقيق، وبيان وتحقيق، فرضي الله عنه وأرضاه.
فمن كان على حالهم، وسار على سبيلهم، فهو منهم وبهم، ومن كان على غير هذا الطريق، متكلفا في هذا السبيل، فهو داخل عليهم، وليس منهم، وهذا موجود ومعهود، وهؤلاء لا يثبتون، وإنما إذا قَضوا مآربهم ووصلوا إلى ما يريدون خرجوا من بينهم وهم آثمون، وما الله بغافل عما يعملون.
فاللهم اجعلنا موصولين بك، ذاكرين شاكرين لك، عابدين مجاهدين في سبيل رضاك، حتى يأتينا اليقين، ونعم أجر العاملين. وصلى الله وسلم وبارك على رائدنا وإمامنا وسيدنا محمد وآله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين.
[1] المعجم الوسيط مادة «صاف».
[2] تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ج.2، ص.225
[3] ينظر قوت القلوب لأبي طالب المكي الأنطاكي 1/244
[4] عالم من علماء الأزهر الشريف، من كبار المتخصصين في اللغة العربية درس بكلية البنات ثلاثا وأربعين سنة، توفي سنة 2015م رحمه الله رحمة واسعة.
[5] تنوير القلوب 2/225