السنة الثانية جمادى الآخرة 1444 هـ - يناير 2023 م


إيمان الريطب
التصوف سر السعادة
إيمان الريطب

إن السبب الذي قاد الكثيرَ من الناس عبر العصور نحو التصوف لم يكن رغبة منهم في تحصيل انتماء فكري، بل كان وكما وصل إلينا عبر العصور من خلال تراجم السلف الصالح اندفاعًا نحو الحقيقة، نحو المعنى الأعظم المحقق للإحسان، وليس المقصود هنا بالحقيقة ذلك المصطلح الذي أَطلقه الغرب على البحث عن الإله؛ فهذا ليس منطلقًا علميًا ولا مقصدًا في الفكر الإسلامي؛ لأن التوحيد مستقر عند المسلمين، بل  المراد بالحقيقة عند السادة الصوفية هو ذلك البرنامج المتكامل في التعرف على الله - عزَّ وجلَّ - بأسمائه وصفاته المُلزِم للترقي في مدارج الإيمان والإحسان.

التصوف تجربة عظيمة، تحملُ في طيّاتِهَا منافعَ كثيرة تتسلل لكل منافذ الحياة الحسية والمعنوية، يستشعر هذا بواقعية كلُّ مَن خاض هذه التجربة الحقيقية و يَشهد بما فيها من سعادة بعدما لاحظَ تغيرًا إيجابيًا في سُلوكه ومشاعره وأفكاره،  تغيُّرٌ جلِي يُشيد به مَن حوله من أهل ورفقاء، ولا عجب، فالتصوف قائم على العلم والمتابعة بالذكر والفكر، وهي محاور كفيلة بأن تجعل أفكار السَّالك مستنيرة؛ لأنها متعلقة بمقصود أعظم وهو الله عزَّ وجلَّ.

ولذلك ولَمَّا كان ارتحال العبد إلى مولاه ظَهرت عليه مباهج لقيَاه، فوجدوا الفرق بين ما كان والآن، ومازالوا ينهلون ويشربون من تلك الوديان، فأولهم ذائق، وآخرهم غارق، وكل مَن ذاق عرف ومَن عرف اغترف.

 من المفقود إلى الموجود:

 يعيش الإنسان الغائب بحِسِّه عن المقصود في بحث مستمر عمَّا يَملأ جَوفه ويُذهب خَوفه، يسعى نحو سعادته بكل طاقته وما يفتأ يفقدها، ليُعيد السعي إليها بشكل آخر، بنوع آخر، بمذاق آخر ، لكن الأمر سرعان ما ينتهي وفي بعض الأحيان ينتهي بانتكاسة وتعاسة. حياة لا معنى لها وكيانات مفرغة من معناها.

فمن جرَّب طريق أهل السعادة عَرف أن السعادة ليست هكذا، السعادة لا تستمر إلا بقصد الله - عزَّ وجلَّ - وهو ما أشار إليه السادة الصوفية بقولهم ( تصحيح القصد)، ومعناه أن ينجمع عزم الإنسان وفِكره على الله -عزَّ وجلَّ - في كل شيء مهما تغيرت عليه الصور ورحل من رحل، وحضر من حضر، فمقصوده الله، وهو قصد عظيم كفيل بأن يجمع شتاته و يُصحح حياته، مهما تقلَّبت أحوالها، وتنَوعت مظاهرها تبقى واحدة في مكنونها؛ لأن فيها فكرة الواحد ( الله ). عندها سيرى مطلوبه في كل مطلوب، وحبه في كل محبوب. 

من جرَّب ذلك عرف للحياة معنى ، فلن يكون صباحه ككل صباح، هيهات بين مَن أصبح يبصر المقصود وبين مَن أصبح وعينيه على المفقود، الأول في حالة استقبال تفتح أمامه الآمال؛ فكل ما سيراه اليوم سيكون مولاه، أما الثاني، فمقيد بكدِّه ونظره وهواه، فأنَّى يراه. هكذا يرتحل بنا أهل الله من المفقود إلى الموجود.

 من الجهل إلى المعرفة:

 الخوف، التوتر، الحيرة، الغضب، هكذا يعيش مَن انقلبت معلوماته وسيطرت عليه ظنونه واحتمالاته؛ ضغط نفسي، قلق، ضبابية في الأفكار، كلها أشياء تعكس مدى ضعف الحمولة المعرفية ومدى الاحتياج إلى مصادر تغذي العقل والروح، فكل همّ يجده الإنسان سببه وهم.

أما ما نراه من السمت الطيب في أهل الله من طُمأنينة وراحة وتوازن، فهو نِتاج لما حصَّلوه من عُلومٍ ظاهرة وباطنة، لذلك كان التعرف على الله ركنًا مهمًّا؛ فهو المصدر الذي يحمل المعاني الصحيحة المريحة للقلب، والتي تضمن للإنسان توازنه العقلي والنفسي.

يجد الفرق واضحًا مَن سلك سلوكهم في التعرف على الله - عزَّ وجلَّ - حين يقف موقفًا صعبًا في أرض فلاة يرى فيه قلوبا موات ، و نفوسًا لم تجد حبلا للنجاة ، وخير دليل ما نزل من آفات ، ألم تلحظ كيف يكون حالهم في ثبات؟!  يرى هذا من حَملته سفينته المعرفية فوق أمواج كالجبال ، وأفضت به تجربته إلى بر الأمان ، يرى هذا مَن ذَهب مضاربهم عندما يجد في ذخيرته مددا معرفيا يحميه من الانسياق وراء الأهواء، يجد هذا مَن تعلم منهم حين تختلط على الناس الأمور كيف يكون على نور، ومازال تابعًا دليلهم يقطف من ثمرات تعرفه على الله يومًا بعد يوم ما يُرضي ربَّه ويُثبت قلبَه ويُنمي حبَّه.

 من السجن إلى الحرية:

 أول خطوات الطريق إلى الله التي أقرَّها المنهج الصوفي هي الخروج من الكذب والزور، وأن يكون المريد على طبيعته بغير تصنّعٍ ولا تكلف، فلا يدَّعي ما ليس له كي يحَسِّن منظره أمام الناس.

نقلة فارقة يفهمها مَن عاش ضغوط التربية والمجتمع، كأشياء تضافرت في تكوين شخصية هشَّةٍ تختبئ وراء الصِّور خَوفًا من المعاقبة وطمعًا في المحبة، خوفًا من أن تكون عرضة للنفور ورغبة في إثبات الحضور.

يعيش المرء جرَّاءها في زنزانة - وإن بدَت عليه سمات القوة والرزانة - ضعيفًا منهكًا مشحونًا بالقلق لا يحب الخلق؛ لأنه ملَّكهم مفتاح فرحه وحزنه، ولا يحب نفسَه؛ لأنه لا يعرف نفسَه.

هل جربت الحرية ؟! أن تكون على السجية! أن تكون أنت  بنظرتك وقدرتك، سعادتك بيدك، مستقبلًا لقدرك، هكذا هم الصوفية يعيشون أوقاتًا هنية في عبودية لله - عزَّ وجلَّ - ينظرون إلى مِداد الحُبِّ يَكتب أقدار الربِّ في كل صورة ونفْس وقلب. إنه ذوق الحرية يستعذبه مَن ارتاض في ميادين أهل الشفافية.

 

من الانفصال إلى الاتصال:

 تلك الحركة التي نشعر بها في صدورنا كلما ذُكر اسمه، تلك الأخطاء التي نرتكبها ثم نَذكُره، تلك الرهبة لجماله كلما تحرك فينا معناه أو هبَّت علينا نسمة من حماه، ثم نتساءل هل فعلًا أحبه؟ لكن لو أحببته لأطعته! بل لست أهلًا لقربه سبحانه. هواجس أحسَّها مَن مرَّ بها. كم أبعَدته، وكم غَرَّبته، وكم عذَّبته، ثم تلمحك الأقدار وتُرسل لك مَن يمسح عنك الغبار ويربطك بقلب المختار، إنه الشيخ ، تلك اليد التي تمتد لك من مكان بعيد لتنشلك من وَهْمك وهَمِّك. تلك الضربة التي تعيد للقلب خفقانه، وللدم جريانه، لا أحد كان يشعر بموتك غيره، لا أحد يفهم ضيرك غيره، ومَن غيره قادر أن يعرف مطلوبك وأن مُصابك محبوبك، مَن يستطيع أن يخبرك أن ذَنبك لا ينفي حبَّك. وحده يُعلِّمك يُهذِّبك يُقرِّبك خطوة بخطوة؛ حتى ترى ربك. يد تتصرف في قلبك، تنور أفكارك وتهذب مشاعرك، تربطك بذاتك وتجود علاقاتك. إنه سند من عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمن عزَّت فيه الحكمة، ستأتي عليك أوقات مدلهمات تصعب فيها القرارات حين لا تدري ما عليك أن تفعل، حين لا تدري ما عليك أن تشعر سينجدك بالبصيرة وينقذك من الحيرة. الحياة قبل الشيخ وبعد الشيخ كالفرق بين الحياة والموت.

 هذا ما يفعله الصوفية، فماذا فعل غيرهم؟