السنة الخامسة ربيع الأنور 1447 هـ - سبتمبر 2025 م


الشيخ. إسلام مصطفى محمد عبد العال
الوقف والابتداء في القرآن الكريم عند أهل الله من الصوفية رؤيةٌ ذوقية (1)
الشيخ. إسلام مصطفى محمد عبد العال

مقدمة

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، قيّمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، أفصح من تلا، وأكمل من تخلق بالقرآن، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، ... فإنّ كتاب الله تعالى هو النور المبين، والذكر الحكيم، من تمسّك به نجا، ومن أعرض عنه ضلّ وغوى، وقد اعتنى العلماء بعلومه أفضل عناية، واستنبطوا منه الأحكام، وتفكّروا في معانيه، وتدارسوا كيفية أدائه وتلاوته، فكان من أهمّ تلك العلوم علم الوقف والابتداء، الذي يعتني ببيان مواضع الوقف الحسن والتام والقبيح، والابتداء الجائز والممنوع، حمايةً للمعاني من التحريف، وصيانةً للفظ من التشويه.

ولم يقتصر النظر إلى هذا العلم على المقرئين والنحويين فقط، بل امتد إلى قلوب أهل السلوك، ممن عرفوا الله تعالى بالقرآن، وساروا في طريقه بنوره. فقد نظر أهل الله من الصوفية إلى الوقف والابتداء بمنظار الذوق والروح، فجعلوا منه بابًا من أبواب الحضور مع الله، وميدانًا لتهذيب النفس، وسُلّمًا للترقي في منازل السالكين، فهم لا يقفون حيث يقف اللسان فقط، بل حيث يهتز القلب، ولا يبدؤون من حيث يُؤذن لفظًا، بل من حيث يُفتح لهم معنًى.

ويأتي هذا البحث ليُبرز هذه الرؤية الروحية العميقة، فيعرض لتصورات الصوفية للوقف والابتداء، ويستشهد بأقوالهم وتطبيقاتهم، مبيّنًا كيف تماهى العلم بالذوق، والفهم بالسلوك، في قراءة القرآن الكريم قراءة حياة لا مجرد تلاوة.

إنّ علم الوقف والابتداء علمٌ جليل، يتعلّق بكلام الله تعالى، ويؤثّر مباشرة في حسن التلاوة وفهم المعاني الشرعية والبيانية. وقد تولّى العلماء ضبط قواعده، وتقعيد أنواعه، وتحقيق مقاصده، إلا أنّ لأهل الله من الصوفية في هذا العلم نظرة خاصة، تجاوزت الاعتبارات النحوية والبلاغية إلى فضاءات الذوق، والوجد، والحضور مع الله.

 فالوقف عندهم ليس مجرّد علامة، بل لحظة شهود؛ والابتداء ليس فقط استئنافًا صوتيًّا، بل تجديد عهد مع المعاني الإلهية.

 في هذا البحث، نسلّط الضوء على تصوّر أهل الله للوقف والابتداء، ونستعرض تطبيقاتهم ومقاصدهم، مستشهدين بأقوالهم، ومصادرهم التراثية.

أولًا: تعريف الوقف والابتداء وأهميتهما في علم التلاوة

يُعرف الوقف بأنه: "قطع الصوت على الكلمة القرآنية زمناً يتنفس فيه القارئ، مع نية استئناف التلاوة لا الإعراض عنها" (ابن الأنباري، الوقف والابتداء). أما الابتداء، فهو الشروع في القراءة من أول الكلام أو بعد وقف.

تنبع أهمية هذا العلم من كونه يحفظ المعنى القرآني من التغيير، ويصون الفهم من الانحراف ، ولذا قال ابن الجزري: "وليس في القرآن شيء أولى بالتعلم بعد حفظه من معرفة الوقف والابتداء، لما في ذلك من إظهار المعاني وإيضاحها." (النشر في القراءات العشر)

ثانيًا: موقف أهل الله من الصوفية عند تلاوتهم للقرآن الكريم

تعامل أهل الله مع القرآن ليس كمادة علمية مجردة، بل ككلام حيّ، يخاطب القلوب، ويخترق الأرواح، فهم يقرؤون القرآن بنَفَس المحب، لا الطالب فقط، وبشوق السالك، لا مجرد التالِي.

ولذلك يرون أن الوقوف على الآيات يعني الوقوف على أبواب الحضرة الإلهية، وأن حسن التوقف علامة على حضور القلب.

قال سهل بن عبد الله التستري: "القرآن كلام الحق، لا يدركه إلا من طهّر سرّه، وجعل له من التلاوة وردًا، ومن المعاني مشهدًا." (حقائق التفسير)

لقد تميّز أهل الله من الصوفية بموقف خاص عند تلاوتهم للقرآن الكريم، يقوم على التعظيم، والتأثر، والتخلق، والتذوق. لم تكن تلاوتهم تلاوة ألفاظ فحسب، بل كانت تلاوة أرواح، تقرأ الآية وكأنها نزلت عليهم، وينظرون في كل لفظ إلى ربّه، لا إلى حرفه فقط. ومن أبرز مظاهر هذا الموقف:

١- البكاء والخشوع عند التلاوة:

كان الإمام سهل بن عبد الله التستري (ت: 283هـ) يقول: "لو أعطي العبد من العبادة مثل أعمال الثقلين، ولم يكن له في القرآن ورد، لم يجد طعم الإيمان" (حقائق التفسير، للسلمي).

 وكان إذا قرأ قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281] بكى طويلًا، ثم يقول: "رجوع الأرواح إلى بارئها أشد من رجوع الأجساد إلى قبورها".

٢- الوقوف الطويل على الآية حتى تنكشف معانيها:

يروى عن الإمام الجنيد البغدادي (ت: 297هـ) أنه قرأ يومًا قوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾ [الأنعام:110]، فصرخ صرخة عظيمة، وغُشي عليه، ثم قال بعد أن أفاق: "هذا تقليب القلوب عن الشهود، أعوذ بالله من الحرمان بعد الذوق!" (الرسالة القشيرية).

٣- التخلق بالقرآن والتوقف عند الأمر والنهي:

كان الشيخ أبو يزيد البسطامي (ت: 261هـ) يقول: "وقفتُ على قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، فاستحييت أن أقرأ بعدها قبل أن أتحقق بالصدق" (الطبقات الكبرى للشعراني).

٤- حضور القلب في التلاوة:

كان الإمام عبد القادر الجيلاني (ت: 561هـ) يقول: "لا تقرأ كتاب الله بلسانك فقط، بل اقرأه إذا قُرئ عليك من باطنك، فإذا حضرت معانيه في قلبك، فحينئذٍ ارفع صوتك بالتلاوة، فإن الله لا ينظر إلى الألسن الغافلة، بل إلى القلوب الواعية" (الفتح الرباني).

٥- اعتبار كل آية خطابًا شخصيًا من الله:

قال ابن عطاء الله السكندري (ت: 709هـ): "إذا قرأت القرآن، فاستمع له كأنك تسمع الله يخاطبك، ولا تكن كمن يقرأ كتابًا لا يدري معناه ولا مراده، فإن القلب إذا وُضع في حضرة الخطاب، تغيّر حاله، وذاب من الهيبة والأنس معًا." (لطائف المنن).

٦- التوقف التربوي لأجل التأمل:

وكان الشيخ علي الخوّاص (ت: 940هـ) يقول: "كنت أقرأ في صلاة الليل، فإذا مرت بي آية فيها أمر أو نهي أو وعد أو وعيد، وقفتُ عندها أكررها حتى أستوفي حقّها من التبصُّر والتفكُّر، وربما مكثت الليل كله أردد آية واحدة." (الدرر المنثورة للشعراني).

ثالثًا: الوقف عند أهل الله مقام روحي:

يتعامل أهل الله مع الوقف باعتباره مقامًا من مقامات السلوك، لا مجرد تقنية صوتية، فالواقف على آية الجنة لا بد أن يشهد الرحمة، والواقف على آية النار لا بد أن يخشى، والواقف على آية التوحيد يجب أن يذوق حلاوة العبودية.

ونسب إلى الإمام القشيري أنه قال إذا وقف العارف على قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: 35]، فهو لا يسمع لفظًا، بل يشهد نورًا...".

يتبع ...