السنة الثانية رمضان 1443 هـ - إبريل 2022 م


يمنى خالد لبن
ليلة القدر عند الإمام أبي الحسن الشاذلي
يمنى خالد لبن

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر﴾ [سورة القدر]

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِين * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِين﴾ [الدخان 3: 5]

ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر؛ تلك اللية المباركة التي اتصلت فيها الأرض بالسماء، وتغير الكون كله من حينها، ليلة نزول سيدنا جبريل الأمين بالوحي الشريف على قلب رحمة الله للعالمين سيدنا مُحمَّد صلى الله عليه وآله وسلم.

ليلة أظهر الله فيها للعالمين كتابه الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المحفوظ بأمره إلى يوم يبعثون، ليلة أظهر الله فيها خطابه للعالمين وكلامه المؤنس لعباده المؤمنين.

ليلة عرف بها المؤمنون قدرهم عند ربهم؛ فاختار لهم سيد الكونين والثقلين؛ ليكون لهم إمامًا، وأنزل إليهم كتابًا واضحًا بِلُغَتهم فيه الهداية والشفاء من كل داء؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44]

ليلة القدر فيها عطاء فوق العطاء فهي التي قال الله تعالى فيها: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر﴾ فأي عطاء يوازي كلام الله عزَّوجلَّ، وقال أيضًا: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر﴾ فلم يقل سبحانه هي بألف شهر بل خير من ألف شهر؛ فهذا عطاء لا تدركه العقول والأفهام، وهذا العطاء اللامحدود يخاطب الله به عزَّ وجل العباد كلٌ على قدر إدراكه:

فمنهم من ينتبه من غفلته ويعلم أن له ربًا يجزل العطاء في تلك الليلة فيحثه ذلك على العمل والاجتهاد، ومنهم من يلفته الخطاب إلى الجواد الكريم، الذي يعطي بلا استحقاق ويعطي ليُغني فيترك الكل ويأتيه يستمطر العطاء منه سبحانه، ومنهم من يدرك أن سر ليلة القدر يكمن في أنها ليلة البداية وأنها تصلح دومًا أن تكون بداية، ومنهم من يقف عند ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ يذوب في (إنَّا) ، ويفنى في (هُ).. فسبحان من وسع غناه مفاقر عباده المادية والمعنوية.

وإذا نظرنا إلى كلام إمام الطريق العَلَم القدوة الإمام الهُمام أبي الحسن الشاذُلي صاحب الوراثة المحمدية الحسية بنسبته إلى سيدنا رسول الله من جهة سيدنا الحسن، والوراثة المحمدية العلمية المعنوية بأسانيده المتصلة بسيدنا رسول الله؛ نجد أنه ذكر ليلة القدر مرتين في كلامه فقال في إحداها:

 «إن أردت الصدق في القول فاستعن على نفسك بقراءة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر]»،  وقد جاءت في بعض الروايات بألفاظ أخرى مثل: (فداوم على قراءة .. ـ أكثر من قراءة ..)[1]، والصدق هو المطابقة أي أن يطابق ظاهرك باطنك؛ فإذا تطابق الظاهر والباطن زالت الأوهام وكُفي الإنسان هم المنازعة بينهما؛ لذلك قال الإمام في موطن آخر: «من قرأ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ كُفي هم الظاهر، ومن قرأ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ كُفي هم الباطن»[2].

ولعل سر ربط الإمام بين طلب الصدق وبين سورة القدر يكمن في أن هذه الليلة هي ليلة العطاء بلا حدود، وقد أجمع أهل الطريق على أنَّ الطريق ليس لمن سَبَق وإنما الطريق لمن صَدَق، فمن وُهِبَ الصدق فقد وُهِبَ سر وأساس الطريق إلى الله، وسَهُل عليه السير وتجاوز بصدقه العقبات؛ فلذلك الصدق عطاء لا يوازيه عطاء آخر.

ومن عطايا ليلة القدر أيضًا (السلام) كما قال تعالى: ﴿سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر﴾؛ وقيل إن السلام يعم تلك الليلة لكثرة نزول الملائكة من السماء في تلك الليلة وسلامهم على المؤمنين، وهي الليلة التي يسلم فيها الناس من كل شر حتى إن من علامتها أنها ليلة تطلع الشمس في صبيحة يومها لا شعاع لها، وهذا وجه لإدراك السلام.

 وقد يكون هناك وجه آخر لإدراك السلام؛ فالسلام اسم من أسماء الله عزَّ وجلَّ يجمع ما بين الجلال والجمال، ومن آثار اعتقاد هذا الاسم والتمعن فيه أن يدرك الإنسان أنه سلم من الظلم في دنياه وآخرته، فالله وحده هو مَلِك الكون ومالكه والمتصرف فيه سبحانه ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد﴾[فصلت: 46].

 ومن آثار اعتقاد اسم الله السلام أيضًا أن يسلم به العباد من العباد فالله محيط بهم أجمعين ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾[غافر: 19].

ومن آثاره أيضًا أن يسلم به الإنسان من كل معنى لا يليق بالمولى سبحانه، وأن يسلم به الإنسان من نفسه ومن الخواطر والأكدار والهوى والسوى، كما جاء عند الإمام أبي الحسن اختصارًا في شأن النفس قال: «وهي التي لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها»[3]، وجاء بتفصيل في نفس المعنى كما قال رضي الله عنه:

ـ «إن أردت جهاد النفس فاحكم عليها بالعلم في كل حركة، وارهبها بالخوف عند كل خطرة، واسجنها في قبضة الله أينما كنت، واشك عجزك إلى الله كلما غفلت فهي ﴿لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ [الفتح:21] فإن سخرت لك في قضية ما فجدير بأن تذكروا نعمة الله عليكم ﴿وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾  [الزخرف: 13] »[4]

والتخلق باسم الله السلام فيه سر من أسرار السعادة؛ فإذا رأيت الأكون بالله تعالى سَلِّم كل ما تراه من النقائص والعيوب والأكدار فلا ترى إلا كل جميل، وقد قال الإمام أبي الحسن الشاذلي في هذا المعنى:

ـ «إذا امتلأ القلب بأنوار الله تعالى، عميت بصيرتُهُ عن المناقص والمذام المقيدة في عباده المؤمنين»[5].

وإذا بحثنا عن ليلة القدر في سيرة الإمام أبي الحسن وماذا كان عمله فيها أو وصاياه، فلن نجد إلا ما رواه الإمام ابن عطاء الله السكندري عن شيخه الإمام أبي العباس المرسي ـ أول خليفة للإمام أبي الحسن ـ حيث روى عنه: إذا كانت ليلة القدر أخبر بها أصحابه، ودعا فيها بمقدار ما يدعو كل ليلة ثلاث مرات، وكان يقول:

«أوقاتنا، والحمد لله كلها ليلة القدر»[6] لكن ما أصل هذا المعنى ومن أين جاء به الإمام أبي العباس؟ يروي الإمام ابن عطاء الله السكندري فيقول:

قال الشيخ أبو العباس: كنت مع الشيخ أبي الحسن بالقيروان، وكان شهر رمضان، وكانت ليلة جمعة، وكانت ليلة سبعة وعشرين، فذهب الشيخ إلى الجامع وذهبت معه، فلما دخل الجامع وأحرم رأيتُ الأولياء يتساقطون عليه كما يتساقط الذباب على العسل، فلما أصبحنا وخَرَجْنَا من الجامع، قال الشيخ: ما كانت البارحة إلا ليلة عظيمة، «وكانت ليلة القدر»، ورأيت الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  وهو يقول:

«يا علي، طهر ثيابك من الدنس تَحْظَ بمدد الله في كل نفس».

 قلت: يا رسول الله، وما ثيابي؟

قال: «اعلم أن الله قد خلع عليك خمس خِلَع: خلعة المحبة، وخلعة المعرفة، وخلعة التوحيد، وخلعة الإيمان، وخلعة الإسلام؛ فمن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن عرف الله صغر لديه كل شيء، ومن وَحَّدَ الله لم يشرك به شيئًا، ومن آمن بالله أَمِنَ من كل شيء، ومن أسلم لله مَا يعصيه، وإن عصاه اعتذر إليه، وإن اعتذر إليه  قبل عذره»؛ ففهمت حينئذ معنى قوله عز وجل: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4].[7]

وهي نفحة وهبة عالية القدر لمن أدرك وفهم معانيها، وهي تسع الجميع،   فمن أسلم وخضع لله فليجتنب الآثام والمعاصي، وإن فعل فعليه بالإسراع إلى التوبة والله غفور رحيم؛ قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾[نوح 10 ] وقال أيضًا في الحديث القدسي: «استغفروني أغفر لكم»، هذا وعد الله ووعد الله لا يتخلف ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلا﴾[النساء: 122].

ومن آمن بالله وأذعن وانقاد له سبحانه وأقرَّ أنه الإله المعبود الذي يجب طاعته في كل شيء أمر به، والابتعاد عن كل شيء نهى عنه، كان بذلك في مأمن في علاقته مع الله سبحانه وتعالى، ومن أمِن في علاقته مع الله أمِن من كل ما سواه قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾[التغابن: 11]

ومن وحدَّ الله تعالى وعَلِم أنه «كان الله ولم يكن شيء معه وهو الآن على ما عليه كان»، وعَلِم أنه سبحانه لا موجود سواه ولا فاعل إلاه، ولا إله إلا الله؛ لم يرَ غير الله ولم يشرك مع الله أحدًا، فالتوحيد سر الله، قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم﴾[آل عمران: 18]

ومن عرف الله وتعَّرف عليه أضاءت شمس المعرفة كل لحظاته؛ فالمعرفة حصن يتحصن به المريد يمنعه عن غير الله ويرده إلى الله، فالمعرفة حقائق عن رب البرية تبدد الأوهام وتنور العقول والقلوب، فمن سلك طريق المعرفة وتعرَّف إلى جلال الله وجمال الله وكمال الله؛ استغنى به عن كل ما سواه وصغرت عنده الأكوان حتى استحالت عدمًا.

ومن أحب الله وانجذب إليه بروحه وقلبه وعقله هان عليه كل شيء إذ سيطر محبوبه على كل شيء فصار بكله مجموع على الله في كل أنفاسه ...ومن كان هذا حاله فلا تسعه الكلمات.

فإذًا من طهَّر ثيابه من الدنس حظي بمدد الله في كل نَفَس وصارت كل أوقاته ليلة القدر.


[1] ـ درة الأسرار [ط. المطبعة التونسية الرسمية ـ ص 130] / حياة الحيوان الكبرى للإمام كمال الدين الدميري مجلد 1 [ص 34] [ط. دار الكتب العلمية ص 60] / مخطوط تعطير الأنفاس للرميلي ـ نسخة جامعة الملك سعود (ت.ر 922) [60و] / المفاخر العلية [مخطوط عام 1200 ه ـ ص 133]/ إعانة المتوجه المسكين للإمام زروق [ط. دار الإمان ابن عرفة ص 75]/ الطبقات الكبرى للإمام الشعراني [ط. دار الكتب العلمية ص297] / الأنوار القدسية في تنزيه طرق القوم العلية للإمام محمد ظافر المدني[ط. دار الإنسان ص 51]

[2] ـ مخطوط درة الأسرار [نسخ عام 1246 ه ـ 96ظ] / مخطوط درة عقد النحر في أسرار حزب البحر للإمام عبدالرحمن بن محمد البسطامي [17 و] / مخطوط تعطير الأنفاس للرميلي ـ نسخة جامعة الملك سعود (ت.ر 922) [63و] / المفاخر العلية [مخطوط عام 1200 ه ـ ص 301] / [ط. دار الكتب العلمية ص 204]  / الأنوار القدسية في تنزيه طرق القوم العلية للإمام محمد ظافر المدني[ط. دار الإنسان ص 51]

[3] ـ شرح المباحث الأصلية للإمام زروق [ط. دار الإحسان ص 112]

[4] ـ اللطيفة المرضية بشرح دعاء الشاذلية للامام داوود بن ماخلا [ط. دار الكرز ص71] / درة الأسرار [ط. المطبعة التونسية الرسمية  ص91] /مخطوط تعطير الأنفاس للرميلي ـ نسخة جامعة الملك سعود (ت.ر 922) [43و] / عدة المريد الصادق الإمام زروق [ط. دار ابن حزم ص221]  /المفاخر العلية [مخطوط عام 1200 ه ـ ص 131][ط. دار الكتب العلمية ص 94] / جامع الأصول في الأولياء للإمام ضياء الدين أحمد النقشبندي [ط. دار الكتب العلمية ص59]

[5] _ الطبقات الكبرى للإمام الشعراني [ط. دار الكتب العلمية ص296] / مخطوط تعطير الأنفاس للرميلي ـ نسخة جامعة الملك سعود (ت.ر 922) [66ظ] / مخطوط الانتصار للأولياء الأخيار للإمام يوسف ابن الملا عبد الجليل/الخضري الموصلي [255و] / تقريب الأصول لتسهيل الوصول للإمام الزيني دحلان [ط. عام 1349 ه ـ ص 33] /طبقات الشاذلية [ط. دار الكتب العلمية ص30] 

[6] ـ لطائف المنن [ط. دار المقطم ص 120] / غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية لابن عباد الرندي [ط. دار الكتب العلمية ص 325] / الكواكب الزاهرة في اجتماع الأولياء يقظة بسيد الدنيا والآخرة لابن مغيزل [ص 367]

[7] ـ لطائف المنن مخطوط عام 740 ه [ص 42]  / اللطيفة المرضية بشرح دعاء الشاذلية للامام داوود بن ماخلا [ط. دار الكرز ص 80] / الكواكب الزاهرة في اجتماع الأولياء يقظة بسيد الدنيا والآخرة لابن مغيزل [ص 372] / المعزى في أخبار أبي يعزى للتادلي الصومعي [منشورات كلية الاداب جامعة ابن زهر / تحقيق علي الجاوي ص 311] / مخطوط تعطير الأنفاس للرميلي ـ نسخة جامعة الملك سعود (ت.ر 922) [24ظ] / كشف الأسرار لتنوير الأفكار للإمام مصطفى بن محيي الدين البيروتي [ط. دار الكتب العلمية ص 22]