السنة الخامسة ربيع الأنور 1447 هـ - سبتمبر 2025 م


م. ولاء أبو جبل
ليو تولستوي الباحث عن الحقيقة ونور سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
م. ولاء أبو جبل

ليو تولستوي Leo Tolstoy

الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي (9 سبتمبر 1828- 20 نوفمبر 1910) من عمالقة الروائيين الروس ومصلح اجتماعي وداعية سلام ومفكر أخلاقي وعضو مؤثر في أسرة تولستوي. يعد من أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر والبعض يعده من أعظم الروائيين على الإطلاق.

أشهر أعماله روايتا (الحرب والسلام) و (أنا كارنينا) اللتان تتربعان على قمة الأدب الواقعي، ويعطيان صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية.

كفيلسوف أخلاقي اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف وتبلور ذلك في كتاب (مملكة الرب داخلك) وهو العمل الذي أثر على مشاهير القرن العشرين مثل مهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ في جهادهما الذي اتسم بسياسة المقاومة السلمية النابذة للعنف، كما صدر له كتاب مهم جدا بعنوان "حكم النبي محمد" في عام  1909

وهذا مقتطف مما قاله الأديب الكبير ليو تولستوي في كتابه الشهير "حكم النبي محمد": (أنا من المبهورين والمعظمين بمحمد، فهو الذي اختاره الله لتكون آخر الرسالات على يديه، ويكون هو كذلك آخر الأنبياء، فيكفيه فخرا وشرفا أنه خلص أمة ذليلة همجية دموية من مخالب شيطان العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم)

يقول أيضا في مقدمة رسالته "حكم النبي محمد": "محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقل عن نفسه إنه نبي الله الوحيد، بل اعتقدَ أيضا بنبوّة موسى والمسيح.. وفي سِني دعوة محمد الأولى احتمل كثيرا من اضطهاد أصحاب الديانة القديمة شأن كل نبيّ قبله نادى أمته إلى الحقّ، ولكن هذه الاضطهادات لم تُثنِ عزمه بل ثابر على دعوة أمّته… وقد امتاز المؤمنون كثيرا عن العرب بتواضعهم وزهدهم في الدنيا، وحب العمل والقناعة، وبذلوا جهدهم لمساعدة إخوانهم في الإيمان لدى حلول المصائب بهم

ثم يعترف تولستوي بمكارم أخلاق الصحابة والجيل الأول من المسلمين رغم كراهية أعدائهم لهم، فيقول: "إذا كان انتشار الإسلام بصورة كبيرة على يد هؤلاء لم يرُق بعضا من البوذيين والمسيحيين فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن المسلمين اشتهروا في صدر الإسلام بالزُّهد في الديانة الباطلة، وطهارة السيرة والاستقامة والنزاهة، حتى أدهشوا المحيطين بهم بما هم عليه من كرم الأخلاق ولين العريكة والوداعة، ومن فضائل الدين الإسلامي أنه أوصى خيرا بالمسيحيين واليهود لا سيّما قسوس الأولين، فقد أمرَ بحُسن معاملتهم ومؤازرتهم، حتى أباح هذا الدين لأتباعه التزوّج من (المسيحيات واليهوديات) مع الترخيص لهم بالبقاء على دينهم"

والكونت ليف نيوكوليافيتش تولستوي يعدّ من أعمدة الادب الروسي والإنساني ممن تركوا بصمة سامقة في تاريخ الأدب البشريفلم يكتف تولستوي بقراءة التراث العربي والإسلامي، حيث كان يتقن اللغة العربية التي أصر على تعلمها، بل عكف على ترجمة عدد كبير من الأحاديث النبوية الشريفة من الإنكليزية إلى الروسية، بعد اطلاعه عليها في ترجمة عبد الله السهرودي، وكتب في هذه الترجمة مقدمة تتصف بالإنصاف والإعجاب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما صدر له كتاب بعنوان "حكم النبي محمد" في عام 1909، أي قبل وفاته بعام واحد، يتحدث فيه عن الإسلام وقيمه السمحة ويضم مجموعة من أقوال الرسول الكريم، مع العلم بأنّ تولستوي كان معروفاً بفكره المحايد تجاه الأديان جميعها.

وقد كتب (ايلمر مود)، أحد كبار مترجمي تولستوي إلى اللغة الإنجليزية في كتابه تولستوي ومشكلاته أن تولستوي ولد في عائلة من النبلاء ربما من الطبقة التي تلي العائلة المالكة. كانت لهم أراض شاسعة، وكان أبوه يحمل لقب كونت، وأمه من طبقة الأمراء، ماتت وهو في الثانية من عمره، فكفلته عماته وخالاته، وقد أثر ذلك في أدبه لاحقا. ثم توفي أبوه وهو في التاسعة من عمره، وذلك بعد انتقال العائلة إلى موسكو قادمة من الريف. لكن لم تواجهه مشكلات مادية نتيجة لغنى العائلة. وفي عام 1844م التحق بالجامعة قسم الآداب العربية والتركية قبل أن يتحول إلى كلية الحقوق في العام التالي، ولكن ذلك لم يعجبه فهجر الدراسة وذهب إلى الريف للاهتمام بمزرعته الكبيرة الموجودة في منطقة ساحرة الجمال. ثم انخرط في الجيش وخاض الحروب، وفي نفس الوقت كان يعد نفسه للكتابة الأدبية، فكتب ثلاثيته التي تكلم فيها عن بدايات حيكان الأدب بالنسبة له عبارة عن أداة للتحليل النفسي للذات لمعرفة سبب الصراع الذي يشعر به بين مبادئه الأخلاقية العالية واستسلامه لعالم الشهوات المادية المضادة للمثل العليا. لقد آمن تولستوي بأهمية العلم لإصلاح الأمم فأقدم في التاسعة عشرة من عمره على تأسيس مدرسة في قريته باستايا بوليانا وكانت له رحلة إلى عدة دول أوروبية للاطلاع على نظمها التعليمية، مما جعله يؤلف كتابًا أسماه الأبجدية عام 1872م، وكان هذا الكتاب عميقًا بحيث إنّ الدولة أقرّته في جميع مدارسها. لكنّه كان في صراع دائم مع السلطة الدينية آنذاك، صراع كبير جدا بينه وبين الكنيسة، فقد قاوم الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا واتهم رجالها بالتحالف مع القيصر ضد الشعب، ولم تقبل الكنيسة أراء تولستوي فكفرته ونبذته… وقد أوصى تولستوي بدفنه بعد موته دون طقوس كنسيته

تولستوي والشيخ محمد عبده..صداقة على مستوى الفكر الإنساني

حيث أعجب الشيخ محمد عبده والذى كان مفتى الديار المصرية فى ذلك الوقت بكتابات تولستوي الروسي الإنساني، وبعد أن حرم المجمع الكنسي تولستوى عام 1901 من الكنيسة لنقده لها، أرسل الإمام محمد عبده عام 1904 إلى الفيلسوف تولستوى رسالة يقول فيه:

"أيها الحكيم الجليل - مسيو تولستوي، لم نحظ بمعرفة شخصك ولكننا لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك.. وأشرقت فى آفاقنا شموس من آرائك.. ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك. هداك الله إلى معرفة الفطرة التى فطر الناس عليها ووفقك إلى الغاية التى هدى البشر اليها فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويتم بالعمل ولأن يكون ثمرته تعبا ترتاح بها نفسه.. وسعيا يبقى به ويرقى به جنسه وشعرت بالشقاء الذى نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة.. واستعملوا قواهم ـ التى لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها ـ فيما كدر راحتهم وزعزع طمأنينته"م.

وأضاف محمد عبده في رسالته قائلا: "لقد نظرت نظرة فى الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد.. ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه.. وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه.. فكما كنت بقولك هاديا للعقول كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم.. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدى بها كان مثالك فى العمل..إماما يقتدى به المسترشدون.. وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء.. كان مددا من عنايته للفقراء.. وأن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك فى النصح والإرشاد.. هو هذا الذى سموه "بالحرمان" و "البعاد" فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أْعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم كما كنت فارقتهم. هذا وإن نفوسنا الشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك وإنا نسأل الله أن يمد فى حياتك ويحفظ عليك قواك.. ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول.. ويسوق الناس إلى الاقتداء بك فيما تعمل والسلام”.

ورد تولستوي على رسالة محمد عبده، وقال: صديقى العزيز، لقد تلقيت رسالتكم الطيبة الحافلة بالمديح وها أنذا أسارع بالرد عليها مؤكدا لكم أولا السعادة الكبرى التى أعطتنى إياها إذ جعلتنى على اتصال برجل متنور.. حتى ولو كان ينتمى إلى إيمان يختلف عن إيمانى الذى ولدت فيه وترعرعت عليه.. ومع هذا فإنى أشعر بأن ديننا واحد ـ لأنى أعتقد أن ضروب الإيمان مختلفة ومتعددة.

وأضاف تولستوي في رسالته: "وإنى لآمل ألا أكون مخطئا إذ أفترض ـ عبر ما يأتى فى رسالتكم ـ بأننى أدعو إلى الدين نفسه الذى هو دينكم.. الدين الذى يقوم على الاعتراف بالله وبشريعة الله التى هى حب القريب ومبادرة الآخر بما نريد من الآخر أن يبادرنا به.. إننى مؤمن بأن كل المبادئ الدينية الحقيقية تنبع من هذا المصدر والأمر ينطبق على كل الديانات.. وإننى لأرى أنه بمقدار ما تمتلئ الأديان بضروب الجمود الفكرى والأفكار المتبعة والأعاجيب والخرافات.. بمقدار ما تفرق بين الناس بل تؤدى إلى توليد العداوات فيما بينهم.. وفى المقابل بمقدار ما تخلد الأديان إلى البساطة وبمقدار ما يصيبها النقاء تصبح أكثر قدرة على بلوغ الهدف الأسمى للإنسانية ووحدة الجميع. وهذا هو السبب الذى جعل رسالتكم تبدو لى ممتعة وفى النهاية أرجو أن تتقبلوا يا جناب المفتى تعاطف صديقكم.. تولستوى”.

*- ولا تزال حتى الآن في متحف تولستوي الشهير في العاصمة الروسية موسكو، رسالتان موضوعتان في صندوق زجاجي أنيق، إحداهما مكتوبة باللغة العربية، بتوقيع مفتي الديار المصرية، الشيخ محمد عبده، والأخرى باللغة الفرنسية، بتوقيع الأديب الروسي العالمي ليو تولستوي، لتكونا شاهدتين على الروابط الثقافية القديمة التي جمعت بين الرجلين.

(ليو تولستوي) التعاليم الإسلامية هي الحل لكل مشكلات العالم

وحيث كان (ليو تولستوي) باحثا عن العلم والسكينة النفسية والإصلاح الاجتماعي، وهذا ما وجده في شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يقول في هذا الإطار:

 مما لا ريب فيه أن النبي محمدًا من عظام المصلحين، الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة، ويكفيه شرفا أنه هدى أمة برمتها إلى الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وتفضل عيشة الزهد، ومنعها من إهدار الدماء، وفتح لها طريقًا للرقي والمدنية رغم ابتلاءاته التي واجهته، وهو عمل عظيم جدا، لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة، وهو جدير كل الجدارة بالاحترام والتبجيل والإكرام

لقد وضع تولستوي كتابه "حكم النبي محمد" دفاعا عن الحق في مواجهة التزوير والتلفيق اللذين لحقا بالدين الإسلامي والنبي محمد على يد جمعيات المبشرين في مدينة قازان، والذين صوروا الدين الإسلامي على غير حقيقته، وألصقوا به ما ليس فيه، فقدم تولستوي الحُجة وأقام البرهان على المدعين عندما اختار مجموعة من الأحاديث النبوية، وأوردها بعد مقدمة جليلة الشأن واضحة المقصد قال فيها إن تعاليم صاحب الشريعة الإسلامية هي حكم عالية ومواعظ سامية تقود الإنسان إلى سواء السبيل، ولا تقل في شيء عن تعاليم الديانة المسيحية، وإن محمدا هو مؤسس الديانة الإسلامية ورسولها، تلك الديانة التي يدين بها في جميع جهات الكرة الأرضية مئتا مليون نفس في زمن تأليف الكتاب عام 1909- يقول في هذا الجانب: "محمد هو مؤسس دين، ونبي الإسلام الذي يدين به أكثر من مئتي مليون إنسان، قام بعمل عظيم بهدايته وثنيين قضوا حياتهم في الحروب وسفك الدماء، فأنار أبصارهم بنور الإيمان وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله"

وقد أكد (ليو تولستوي) أن التعاليم الإسلامية هي الحل لكل مشكلات العالم

في الختام، لعلّ ما صدم به الكونت ليو تولستوي جمهور القرّاء في العالم قوله في كتاب حكم النبي محمد، حتّى إنّ العديدين ذهبوا إلى جزمهم بإسلام تولستوي في أواخر حياته، إن البشرية في أشد الحاجة لقوانين الشريعة الإسلامية، فإن شريعة القرآن سوف تسود العالم، لتوافق العقل وتنسجم مع الحكمة، لقد فهمت وأدركت أن ما تحتاج إليه البشرية هو شريعة سماوية تحقق الحق، وتبدد الباطل، والشريعة الإسلامية بقوانينها هي أرقى نموذج ليسود العدل وائتلاف العقل الحكمة هذا العالم.

المراجع

كتاب حكم النبي محمد،  المنشور في عام  1909

كتاب طريق الحياة، المنشور في عام  1910