السنة الخامسة ذو الحجة 1446 هـ - يونية 2025 م


الشيخ. أيمن حمدي الأكبري
مدخل إلى علم الأولياء
الشيخ. أيمن حمدي الأكبري

الحمدُ للهِ بالحمْدِ الأتَم، وصلَّى اللهُ على مَنْ أوتي جوامع الكلِم، سيدنا محمدٍ وآلهِ وسلم.

وبعد،

لما كانت معرفة الحق تعالى لا تتحصل بالفكر، وغايَةُ أهلِ النظرِ إنْ صَحَّ نظرُهم التسليم بوجود خالقٍ مُدبِّرٍ للعالَمِ، كانَ العلم بأسماء الله تعالى أقرب الوسائل إلى معرفته، كما قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31] غير أن تمام العلم بالأسماء يلزمه تنزيه الحق تعالى المسمى بالأسماء الحُسنى عن ملابسة معاني الحدوث له، ولا يكون ذلك إلا بأن يرتاض العبد نفسه بالتجريد.

ولا تحجُبَّنكَ المعاني والأكوان، فإن لكل شيء ظاهرًا وباطنًا، فمن عبَرَ مِنْ ظاهر الشيء إلى باطنه، صار الباطنُ له ظاهرًا، والأسماء كذلك، وهي آياتٌ ذوات ظاهر وباطن وحَدٌّ ومطلعٌ.

ولمَّا كانت معرفة الشيء لا تتم إلا بمعرفة بسائطه التي تركبت منها صورته، نظر أهل هذه الطريقة ممن يطلب دقائق العلم بالله إلى الحروف من كونها بسائط الأسماء، بل نظروا إلى بسائط الحروف، ومراتبها وأعدادها وطبائعها، وغير ذلك من أسرار الله في خلقه، فإن الحروف من خلق الله، وهي أفرادٌ وأزواج، وأجسادٌ وأرواحٌ، ونفوسٌ وعقول يُسَبِّحون بحمد الله.

وهُم على مراتبَ وجوديةٍ كسائر الأكوان المتكونةِ، فكان للحرف وجودٌ في عينه، ووجود في الرقم وهو الكتابة، ووجودٌ في اللفظ، ووجودٌ في الذهن، وكل هذا معلومٌ لمن نظر في كلام العلماء بالله، بل ينبغي أن يكون معلومًا بالبديهة لكل عاقل.

فلا تظن أيها الحبيب أنَّ الحروف عند القوم هي تلك الأصوات فحسب، فإنَّ لكُلِّ أهلِ فنٍّ معاني يصطلحون عليها، ويكون علمك بمقاصدهم على قدر ما لديك من معرفة باصطلاحهم.

وفي هذا المقال مدخلٌ يتسع لنظرك في ذلك العلم الذي هو علم الأولياء، وقد يسمونه العلم العيسوي، يعني الروحاني، كما ذكَرَ ذلك الشيخُ الأكبر في فتوحاته المكية، فاحتجنا إلى الكلام على بعض ما اصطلحوا عليه:

فمن ذلك أن الحروف عندهم ثمانية وأربعون حرفًا وأقسامها كما يلي:

سبعة نورانية، رمزوا بها إلى أمَّهاتِ الصفات:

الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام.

واثنا عشر روحانية وهي القوى التي هي قوام الأكوان والإنسان: روح السمع، وروح البصر، وروح الشم، وروح الذوق، وروح اللمس، وروح الفكر، وروح الخيال، وروح الوهم أو التصوير، وروح التدبير، وروح التشكيل، وروح الحفظ، وروح التصريف.

وتسعة وعشرون حرفًا جسمانية وهي حروف الكلمات.

فالحروف النورانية تمد الحروف الروحانية، والروحانية تمد الجسمانية، وبسر ذلك السريان تظهر الآثار.

ثم إن الحروف النورانية تتنزل إلى أفلاك السموات وكل حرفٍ يمد سماءً، فكان حرف الحياة لسماء القمر، وحرف العلم لسماء الزهرة، وحرف الإرادة لسماء عطارد، وحرف القدرة لسماء المشترى، وحرف السمع لسماء الشمس، وحرف البصر لسماء المريخ، وحرف الكلام لسماء زحل.

وإطلاقهم اسم الحرف على تلك الحقائق بطريق المجاز، إذ الحرف عندهم عبارة عمَّا دل على شيء لا يدل عليه غير ذلك الدال من جنسه، وحقيقة تلك الحروف النوارانية واحدةٌ تتكثر في الإدراك، لا في ذاتها، فإنها صفات الواحد الأحد جل شأنه، فهي حروف نوارانية من حيث تنزلها في الأفلاك، وعن دورانها تحدث الكلمات، قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: 109].

فإذا علمت ذلك فاعلم أنَّ الآثار تحدث في الحروف الروحانية، وهي للحروف الجسمانية كالأبراج للسماوات والأرض وما بينهما، فعن تلك الحروف الروحانية تصدر المعاني، وفي معرفة ذلك راحةٌ للعاني، وهذا علمٌ لا يحصل بالأماني، ولا يحصله المتواني، والله يرزق بغير حساب.  

وقد قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44].

فهذا تسبيحٌ حقيقي لا مجازي، ولذا فلا يفقهه كلُّ أحد، بل خفي على أكثر الناس أنَّ لكل شيء معرفة بربه، لولا تلك المعرفة لما سبَّحَ الشيءُ ربَّهُ.

والحروف مِن جُملةِ الأكوانِ المُسَبِّحةِ العارفةِ بالله، فطلبَ أهلُ الله علمَ الحروف من كونها الأفصح لسانًا، فإن الله تعالى قد أودع فيها بالقوة حمل المعاني، وفيها بالفعل العبارة عنها بكل لغةٍ ولسان، وأصل تركيب الحروف للعبارة عن الأسماء، ثم يكون الاشتقاق من الأسماء.

وقد أشرنا إلى الحروف النورانية؛ أعني فيض أنوار أمهات الصفات، وأن إطلاق اسم الحروف عليها بطريق المجاز، فإنها معجمة عن الأفهام، وليست الصفات حروفًا أصلًا، بل أنوارُها المفاضة على الأكوان هي التي ينطبق عليها لفظ الحرف، فالصفات لا حدَّ لها يقيدها إلى بما هي نازلة في الأكوان، إذ لولاها ما كان لكونٍ حياةٌ، ولا عِلْمٌ، ولا إرادةٌ، ولا قُدرةٌ، ولا سَمْعٍ، ولا بَصَر، ولا كلام، ومن هذه الحيثية فهي مثال حروفٍ الكلام، إذ عنها تكونت الأكوان، وحدثت الآثار، والأكوان كلمات الله تعالى التي لا تنفد.

وما تكثرت الصفات إلا من جهة إدراكات القوابل، وإلا فهي فيض الذات، وعلى هذا المثال الأجل، خلق الله الحروف الروحانية والجسمانية، فالجسمانية منصوبةٌ للدلالة عمومًا وخصوصًا، ألا ترى الحروف كلها صدرت عن الألف الذي هو النفَس الساري، وإنما تميزت الحروف بمرورها على المخارج، كذلك الحروف الروحانية الاثنا عشر، وهي في العالَمُ حقائق، وفي أكوانه أرواحٌ وقوى، وكمالُها في الإنسان، إذ بها يكون إدراكه، وهي منه كالفلك المحيط بالسماوات والأرض.

وقد علمنا تنزل الصفات في السبع سماوات أنوارًا، كما شهدنا إحاطتها بالعرش أسرارًا، فهي صفات الحق المحيط، وأنوارُها روحُ حياةِ كل مُرَكَّبٍ وبسيط.

فالحروف النورانية تمد الحروف الروحانية، وفي الروحانية تحدث الآثار، ولا تحسب أن الحروف النورانية المذكورة ههنا، عين الحروف النورانية التي هي نصف الحروف الجسمانية، فإنهم قصدوا بها في اصطلاحهم الحروفَ المقطعة في أوائل السور القرآنية، وسموها نورانية لشرف البدء بها في السور المشهورة، وسموها علوية أيضا لأسرارٍ سترها الله تعالى عن أكثر الناس، وليس هذا موضع الكلام فيها.

فنرجع إلى الحروف الجسمانية فإنها قوالب لأرواحٍ حرفية أسكنها الله في المنازل الثمانية والعشرين، جعل لكل منزلةٍ حرفًا، تظهر آثار ذلك الحرف فيما دونه من الأفلاك عند حركة الكواكب، وأظهرُ ما تكون الآثار في الأرض بسير القمر في المنازل، وجعل سبحانه ليلة سرار القمر لحرف لام ألف، وهو حرفٌ واحد عليه مدار التوحيد، فقال رب العزة في الحديث القدسي: (لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمنَ مِنْ عذابي).

وأعني بقولي: الحروف الجسمانية قوالب الأرواح الحرفية، أن الجسمانية عبارة عن الحروف اللفظية، والرقمية، والذهنية، أما أرواحها فهي تلك الأرواح التي أسكنها الله فلك المنازل، وهي على مراتب، ومن هنا اعتبر أهلُ هذا الفن الحروفَ أجسام، وأعدادها أرواحها، إذ دلت أعدادها على مراتبها التي أقامها الله فيها، قال تعالى حاكيًا عن الملائكة: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: 164]، وقال تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]، فلهم المُقامُ في المَقام، ولهم التنزل في الصور اللطيفة والكثيفة، كما دل عليه الشرع الشريف.

كذلك تتنزل الحروف في الصور المتولدة في الهواء، والألواح، والأذهان، وتبرز للمَدَارِك في صُوَرِ أرواح المعاني، فلا تخفى آثارها.

وقد أبرزت في هذا المقال صورًا للحروف هي مُثُلٌ لأبوابٍ من دخل منها اطلع على ما ستر الصوفية من أهل هذا الفن، وراء تلك الأبواب في غرف وخزائن اتخذوها صيانة لهذا العلم الشريف، وغيرةً عليه أن يطلع عليه غير المُتَّقين، فإن للحروف أسرارًا أودعها الله في أصل جِبِّلتِهَا، وجعلها أسبابًا لما شاء أنْ يظهر عنها من الآثار، فمن طلب مسبب الأسباب، لا يحجبه حجاب، والله من وراء القصد، لا ربَّ غيره.