السنة الثانية ذو الحجة 1443 هـ - يولية 2022 م


د. مختار محسن الأزهري
مفاهيم خاطئة عن التصوف
د. مختار محسن الأزهري

(التصوف مجاهدة وعمل لا بطالة وكسل)

من بين العديد من الشبهات والمفاهيم الخاطئة عن التصوف وأهله تعد هذه الشبهة من أشهر  الشبهات عن التصوف في أوساط كثير من الناس،  ممن تأثروا بدعايات الجماعات المتطرفة ومن سبقهم من المستشرقين أصحاب التوجهات المعادية للإسلام.

والحقيقة أن التصوف بعيد كل البعد عن شبهة الركون إلى البطالة والكسل؛ لأن السادة الصوفية شأنهم في كل عصر التشمير للطاعة والخدمة لخلق الله، وهذا هو الإمام أبو نعيم المحدث الصوفي في موسوعته حلية الأولياء يعرف التصوف فيقول: " التصوف حمل النفس على الشدائد، الذي هو من أشرف الموارد"[1]، ويقول أيضا : " التصوف الإكباب على العمل، تطرقا إلى بلوغ الأمل"[2].

ولم يقف الأمر عند الصوفية الأوائل إلى مجرد الاكتفاء بالتعريف النظري، بل حققوا ذلك بالسلوك العملي، وهذا إمام الصوفية في زمانه الإمام القشيري في تفسيره ينبه على ألا يركن العابد والسالك إلى الراحة في أول أمره كي لا يكون فتنة لغيره قال رحمه الله تعالى: "والعابد إذا جنح عن الأشق وترك الأولى، تعدى ذلك إلى من كان ينشط في المجاهدة فيستوطنون الكسل، ثم يحملهم الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصيرون كما قيل:

إن الشبابَ والفراغَ والجِدَة ... مفسدةٌ للمرءِ أيُّ مفسدة"[3]

وقد كان ذلك سلوك مشايخ الصوفية الأُول وحالهم مع مريديهم تربيتهم على السعي في الدنيا بعد الوعي بحقيقتها؛ وقد نقل عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال :" قدمت البصرةَ فجلست إلى يونس بن عبيد[4] فإذا فتيان كأن على رءوسهم الطير فقلت: يا معشر القراء، ارفعوا رءوسكم فقد وضح الطريق، واعملوا ولا تكونوا عالة على الناس فرفع يونس رأسه إليهم، فقال: قوموا فلا أعلمن أحدا منكم جالسني حتى يكسب معاشه من وجهه فتفرقوا، قال سفيان: فوالله ما رأيتهم عنده بعده"[5].

وإذا كان ما مر هو نهج الصوفية الأوائل فإن منهج التصوف قد تعدى هذه الأعصر الفاضلة واستمر مع الصوفية المتأخرين، ففي القرن العاشر الهجري الذي زاد فيه الضعف والتفكك السياسي والاجتماعي في بلاد المسلمين لكن رغم ذلك ظل دعاة التصوف وأئمتهم حريصين على قيم الإسلام وترسيخ مبادئ التصوف في سلوك المريدين يقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني نقلا عن شيخه إبراهيم المتبولي "وكان رضي الله عنه يقول: لا أحب الفقير إلا إن كان له حرفة تكفه عن سؤال الناس"[6].

ومعنى ذلك أن الصوفية ترسخ لديهم عبر أجيالهم المختلفة ضرورة ألا يكون المريد السالك عالة على الخلق، بل لا بد أن يكون ساعيا على معاشه وهو مقبل على ربه.

ولم يقف الأمر عند حرصهم على العمل والسعي في الدنيا بل تعدى ذلك إلى حرصهم الشديد على الوقت وجعلوا الوَحدة التي يقيسون بها الوقت هي النَّفَس!

قال الإمام القشيري: " وبناء هَذَا الأمر وملاكه عَلَى حفظ آداب الشريعة وصون اليد عَنِ المد إِلَى الحرام والشبهة وحفظ الحواس عَنِ المحظورات وعدِّ الأنفاس مَعَ اللَّه تَعَالَى عَنِ الغفلات"[7].

إذن كانوا يعدون أنفاسهم حرصا على وقتهم أن يضيع في غفلة عن الله عزوجل، وقال الواسطي: أفضل الطاعات حفظ الأوقات وهو أن لا يطالع العبد غير حده، ولا يراقب غير ربه ولا يقارن غير وقته"[8].

وقد تحول ذلك إلى منهاج لهؤلاء الصوفية الكرام وأدب يحرصون عليه ليس في حفظ وقت أنفسهم فقط، بل في حق الآخرين حتى لا يكونوا سببا في ضياع أوقات الخلق في غير ما يحبه الله ويرضاه؛ يقول الإمام الشعراني نقلا عن سيدي علي الخواص: "من أدب الزائر أن لا يشغل المزور عن الله تعالى بدخوله عليه إما لقوة حال المزور، وإما أن يكون وقت فراغ، قلت: ويقاس على ذلك تعطيله عن الحرفة التي تكفه عن سؤال الناس"[9]

ولا يفوتنا أن نذكر ما تقرر في تراث المدرسة الشاذلية التي أسسها سيدنا أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه من الحرص على انشغال المريد السالك بما أقامه الله فيه وألا ينقل نفسه لغير ما أقامه الله فيه إلا بإذن أو تيسير من المولى جل جلاله حتى لا تتعطل معايش الخلق ومنافعهم؛ وهو ما قرره القطب المرسي ونبَّه عليه الشيخ ابن عطاء الله السكندري ليكون منهجا لكل سالك ومريد؛ يقول الشيخ ابن عطاء الله : "دخلت على الشيخ أبي العباس المرسي وفي نفسي العزم على التجريد[10]، قائلاً في نفسي إن الوصال إلى الله تعالى على هذه الحالة التي أنا عليها بعيد من الاشتغال بالعلم الظاهر، ووجود المخالطة للناس، فقال لي من غير أن أسئله صحبني إنسانٌ مشتغل بالعلوم الظاهرة ومتصدر فيها فذاق من هذا الطريق شيئًا فجاء إلىّ فقال لي يا سيدي أخرج عما أنا فيه وأتفرغ لصحبتك، فقلت له ليس الشأن ذا، ولكن امكث فيما أنت فيه وما قسم الله لك على أيدينا فهو لك واصل"[11].

فرضي الله عن أسيادنا الصوفية الذين علمونا مجانبة البطالة والكسل والتشمير للمجاهدة وحسن العمل.


[1] حلية الأولياء 1/48 لأبي نعيم الأصبهاني ط.دار الكتاب العربي

[2] حلية الأولياء 1/55

[3] لطائف الإشارات للقشيري 1/617 ط.الهيئة المصرية العامة للكتاب .

[4] أحد التابعين الكبار ومن أئمة الزهد والعبادة توفي 140 هـ

[5] حلية الأولياء 6/382

[6] الطبقات الكبرى للشعراني 2/77 ط.مكتبة المليجي

[7] الرسالة القشيرية 2/583

[8] الرسالة القشيرية 1/332

[9] الطبقات الكبرى للشعراني 2/132

[10] التجريد:ترك الأسباب والتفرغ لعبادة الله

[11] إيقاظ الهمم شرح الحكم لابن عجيبة صـ32 ط.دار المعارف.