السنة الثانية ربيع الأنور 1444 هـ - أكتوبر 2022 م


د. مختار محسن الأزهري
مفاهيم خاطئة عن التصوف - 2
د. مختار محسن الأزهري

التصوف الإسلامي ليس منتحلًا من أي دين آخر

حار أعداء التصوف فيه؛ فهم قد أنفقوا أموالا طائلة لصرف الناس عنه - ولا يزالون- ولم ينته في الأمة تعلق الناس بالتصوف وأهله؛ وقد راح هؤلاء الأعداء يروجون الكذبة تلو الكذبة عن التصوف حتى حق عليهم قول الله تعالى: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران:24].

وفي المقال السابق استعرضنا كيف أنهم روجوا كذبًا كون الصوفية هم أهل البطالة والكسل، وأن صحبتهم تفضي إلى ترك العمل، وقد بينا كذب هؤلاء المتطرفين، وأن حال الصوفية ومعارفهم وبرامجهم على العكس من ذلك؛ إذ هم أهل السعي في الدنيا لكسب الحلال وتعمير الأكوان، وفي شأن الآخرة هم أهل المجاهدة والإحسان.

فأما الكذبة التي نناقشها في هذا المقال فهي ما روجه هؤلاء المتطرفون عبر أدبياتهم ووسائل إعلامهم خلال أكثر من نصف قرن أن التصوف منتحل ومنقول من عدد من الديانات والمذاهب الباطلة، يقول أحد هؤلاء المتطرفين : «ولا شك أن التصوف منهج نشأ قبل الإسلام فكرًا وسلوكًا وعقيدة، وأنه كان في كل الأمم والديانات وخاصة في البرهمية الهندوكية والفلسفة الإشراقية اليونانية والمجوسية الفارسية، وكذلك نشأت النصرانية»[1]

ويفتري آخر على التصوف فيقول: «إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله، ولرسله، إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي، العداوة للدين الحق، فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية وديصانية، تجد أفلوطينية، وغنوصية، تجد يهودية ونصرانية، ووثنية جاهلية، تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر!»[2]

هذا الكلام المرسل والافتراء الواسع الذي لم يأت أحد من هؤلاء المتطرفين بدليل عليه راج لدى كثير من الكتاب والباحثين في التصوف، وتقرر على أنه أمر مقطوع به! وهو على العكس من ذلك: محض كذب ودعوى لم تثبت بحال من الأحوال، وفيما يلي بعض أدلة أصالة التصوف، وأنه نَسَق متفرد بين الأمم ليس له نظير في أي من الأديان السابقة أو الفلسفات اللاحقة.

وسنكتفي هنا بذكر دليلين أحدهما يتعلق بمرجعية التصوف والآخر يتعلق بمنهجية التصوف.

أولًا: دليل أصالة المرجع

 إذا بحثنا عن أوائل ما كتب في التصوف من النصوص المنقولة أو الكتب المدونة، سنجد اتفاقًا فيما بينها على اعتماد نصوص الوحيين مرجعا ومصدرا لما يقدمونه للناس من أفكار ومعارف، وليس هناك كتاب واحد منها ينقل عن الديانات السابقة أو حتى ينقل عن أرسطو أو أفلاطون أو بوذا أو غيرهم من الفلاسفة وأصحاب المذاهب المختلفة.

ولعل مِن أقدم مَن كتب في التصوف من أئمته، ومن أقدم الكتابات الصوفية كتب الإمام الحارث المحاسبي رضي الله عنه الذي عاش في القرن الثاني الهجري وتوفي عام 243 هـ ؛ ومن جملة كتبه كتاب «رسالة المسترشدين» الذي ذكر فيه عددا من الوصايا للمريدين والسالكين؛ فقال في أول الكتاب وفي مفتتحه: «فمن شرح الله صدرَه، ووصل التصديقُ إلى قلبه، ورغب في الوسيلة إليه، لزم منهاج ذوي الألباب برعاية حدود الشريعة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وما اجتمع عليه المهتدون من الأئمة»[3].

فهذا بيان من الإمام المحاسبي أن ما يرتضيه هو طريقًا ومنهاجًا لذوي الألباب: رعاية حدود الشريعة من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة.

فهل بعد ذلك البيان من شك في كذب دعاوي المتطرفين، وتهافت مقالات المنحرفين، لكن لنزيد المسألة وضوحًا بنقل آخر من المراجع الأصيلة للتصوف؛ وهو الرسالة القشيرية للإمام المفسر المحدث اللغوي المتكلم أبي القاسم القشيري الذي عاش في القرن الخامس وتوفي سنة 465هـ، وكتاب الرسالة للقشيري مرجع من مراجع التصوف المعتمدة والتي ينقل عنها كثيرون ممن جاء بعده.

وقد تعرض الإمام القشيري في كتابه هذا لمنازل السلوك إلى الله وبين كثير من مصطلحات التصوف وأبوابه، وكان يفتتح كل باب بآية أو حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما صار بعد ذلك سنة متبعة في كثير من كتب الصوفية حيث يُقَدَّم الدليل على المدلول غلقا للتوهم، ومنعا لداعية التقول، وبيانًا للمنهج الذي اعتمده أئمة الصوفية. إذن فليس في مراجع التصوف الأساسية أي اعتماد على غير نصوص الشرع الشريف.

ثانيا : دليل أصالة المنهج

المنهج هو الطريق الموصل للحقيقة، ويقصد به هنا في جانب التصوف الطريقة التي اعتمدها الصوفية للوصول إلى الله من سلوك وأحوال، وعندما نتأمل ذلك الجانب سنجد اتفاقا واتساقا مع معالم الشرع الشريف ومقاصده وأحكامه بشكل تام.

ولبيان ذلك نقول: ليس هناك طريقة واحدة من الطرق المشتهرة المعتمدة عند أئمة الصوفية كالشاذلية والرفاعية والقادرية والخلوتية والنقشبندية وغيرها إلا وهي تعتمد برنامجًا للمريدين يحتوي على ذكر الله المأخوذ من قول الله تعالى: ﴿ يأيها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:41]، ومجاهدة النفس بترك المحرمات وفعل الواجبات المأخوذة من قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وعلى اختلاف مسالكهم ومشاربهم فلا يمكن لأي منتسب لهذه الطرق أن يدعي سقوط التكاليف والفرائض أو عدم احتياجه لمجاهدة نفسه وردع هواه.

ومن أوضح النصوص التي تدل على هذا المعنى وهو تواصي الصوفية بالعمل الصالح مع عدم الاتكال عليه ما قرره حجة الإسلام وإمام الصوفية في عصره أبو حامد الغزالي حيث قال: «من ظنّ أنه بدون الجهد يصل فهو متمّن، ومن ظنّ أنه يبذل الجهد يصل فهو مستغن»[4]

فبان من كل ذلك أن كتب التصوف والسلوك قد امتلأت بما يشغل وقت المريد في طاعة مولاه ومجاهدة هواه بما لا مزيد عليه، وأن علم التصوف وسلوكه لا يمكن لأحد من أهل الإنصاف أن ينسبه إلا لما جاء به الشرع الشريف من هدي مبين ومنهاج قويم وصراط مستقيم، فالحمد لله رب العالمين.


[1] الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق صـ43 ط.مكتبة ابن تيمية الكويت.

[2] من مقدمة عبد الرحمن الوكيل لكتاب مصرع التصوف للبقاعي صـ :8  ط.أنصار السنة. وعبد الرحمن الوكيل من أكابر مفتريهم؛ وقد كان رئيسا لجماعة أنصار السنة المحمدية بمصر وتمتلئ كتبه تكفيرا وطعنا في المسلمين وحربا على أولياء الله الصالحين، نسال الله العفو والعافية.

[3] رسالة المسترشدين للإمام المحاسبي صـ 36 ط.مكتب المطبوعات حلب، بتحقيق الشيخ أبو غدة

[4] رسالة أيها الولد للإمام أبي حامد الغزالي صـ4 ط.ابن حزم