
مفاهيم صوفيّة - 1
د. مختار محسن الأزهريالطريقة (2 / 1)
مما تعلمناه من مولانا شيخ الطريقة ومعدِن(1)الحقيقة الإمام العلامة نور الدين علي بن جمعة–حفظه الله تعالى-عبارته المباركة«الوعي قبل السعي»ويقابل هذه العبارة من كلام الأقدمين ما ترجم به الإمام البخاري رضي الله عنه أحد أبواب صحيحه حيث قال: "بابُ العلم قبل القول والعمل"فالعلم والوعي والفهم كلها أمور لابد منها أولًا في التصوف؛ كما أنها لا بد منها في سائر مناحي الحياة؛ فالسعي من غير وعي كمن يمشي في الصحراء بلا دليل، أو من يركب قطارا لا يدري إلى أين يتجه؟!
ومن هنا فإن معرفة مفاهيم التصوف وإدراك مقاصده، هي من الأمور المهمة على كل سالك ومريد على وفق حاله، وعلى قدر استطاعته؛ كلما ظهر له خفاء مفهوم من مفاهيم التصوف أو التبس عليه معنى من المعاني في التعبد والسلوك، فإنه من الواجب عليه وفق مقررات الطريق الرجوع إلى شيخه أو من يعينه له الشيخ حتى يزول إشكاله وتذهب حيرته.
قال تعالى ﴿الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾[الفرقان:59]
وفي خلال هذه المقالات سنحاول التعرف على العديد من أهم معارف ومفاهيم التصوف الإسلامي؛ من أجل أن يكون سعينا وسلوكنا على وعي صحيح، وأساس قويم.
وأول ما اخترناه كي نتعرف عليه هو مفهوم"الطريقة"وسبب ذلك أننا إذا سألنا أنفسنا عما يطرأ على أذهاننا عندما نسمع كلمة«التصوف»؛ فإن الإجابة هي أن من أول ما يرد على أذهاننا هو مفهوم"الطريقة"؛ وكأنهما وجهان لعملة واحدة!
ويسأل كثير من الناس عن معنى هذه الكلمة؟ وما المقصود منها؟ ومن أين أتى الصوفية بها؟ وما سر تمسك الصوفية بها كمنهج لسلوكهم وأساس لطريقهم؟ وما هي شرائط هذه الطريقة ؟ ولا يفوتنا أن نذكر أهم الإشكالات التي يرددها النابتة الخوارج كي يصرفوا الناس عن طريق الله، وشبهاتهم وإن كانت أوهن من بيت العنكبوت لكن يلزم بيان انقطاع حجتهم وبُعد منهجهم عن المحجة البيضاء؛ من باب النصيحة لعموم الأمة.
-فأما معنى كلمة الطريقة:
فإن لغة العرب حملت لنا عددًا من المعاني لكلمة الطريقة؛ كما ذكر ذلك السيد المرتضى الزبيدي في كتابه(تاج العروس شرح جواهر القاموس)فقال: "والطريقة:الحال؛ تقول:فلان على طريقة حسنة، وعلى طريقة سيئة، والطريقة:عمود المظلة والخباء، ومن المجاز:الطريقة:شريف القوم وأمثلهم، للواحد والجمع.يقال:هذا رجل طريقة قومه، وهؤلاء طريقة قومهم.وقد يجمع طرائق فيقال:هؤلاء طرائق قومهم للرجال الأشراف"(2)
فهذه بعض معاني الطريقة في اللغة، فكلمة الطريقة تحمل لنا معاني:الحال، والأساس، والشرف، وكلها معاني يمكن أن تجتمع في الطريقة عند السادة الصوفية رضي الله عنهم؛ ولا عجب في ذلك فإن علوم التصوف ومصطلحاته ليس فيها وافد دخيل بل كلها مما تناقلته معاجم لغة القرآن الذي أوحي به إلى سيد ولد عدنانﷺ، لكن وحتى لا نحلق بعيدًا عن المراد، ونبتعد عن مقصودنا من البيان؛ فإن تمام معنى الطريقة عند السادة الصوفية قد انتقل من حالة اللفظ الذي يدور بين تلك المعاني المجتمعة إلى معنى محددٍ مستقر في الأذهان ينتقل عبر الزمان والمكان؛ وهذا المعنى هو ما عبر عنه كذلك شيخنا وإمام طريقنا سيدي علي بن جمعة في قوله"الطريقة الصوفية هي المدرسة التي يتم فيها التطهير النفسي والتقويم السلوكي"(3)
إذن فالطريقة ليست سوى المدرسة التي يتم فيها تطبيق معارف التصوف وقواعده ، وذلك على يد الشيخ الذي يمثل أساس وعمدة هذه المدرسة،وطلاب هذه المدرسة هم المريدون الذي رغبوا في تخليص نفوسهم وتهذيب أخلاقهم.
ويأتي السؤال الثاني:وهو من أين أتى السادة الصوفية بهذه الكلمة؟
والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تظهر أمرًا غاية في الأهمية، ينبغي على كل سالك ومريد أن يدركه من أمر التصوف؛ وهو أنه ليست هناك كلمة واحدة أو مفهوم من مفاهيم التصوف إلا وقد تشبع تمام التشبع بمعاني الكتاب والسنة ومنه هذه الكلمة؛ فكلمة الطريقة هي من الألفاظ القرآنية التي استخدمها القرآن وصارت ضمن مفرداته وقد وردت في أكثر من آية ومنها قول الله تعالى ﴿ وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾[الجن:16]وقد جاء في أحد أوجه تفسير هذه الآية أن المراد هنا هو الاستقامة على طريقة الحق ؛ كما أورد ذلك الإمام الطبري في تفسيره عن مجاهد(4)
وبناء على ذلك فإن السادة الصوفية عندما وفقهم الله لاختيار لفظ الطريقة للتعبير عن تلك المدارس الربانية التي تطبق حقائق الدين وتدعو إلى الله على بصيرة؛ فإنهم لم يخترعوا مفهومًا بعيدا عن الشرع لا في لفظه ولا في أصله العربي، ولا في اتصاله بمعاني القرآن والسنة؛ فهنيئًا لمن اتبع ذلك المنهج القويم، وراح ينهل من نبعهم الصافي.
ويأتي ثالث هذه الأسئلة وهو عن سر تمسك الصوفية بالطريقة كمنهج لسلوكهم وأساس لطريقهم؟
والحقيقة أن سر تمسكهم بها واضح جلي؛ وذلك لأن طريق الصوفية ليس طريق وهم وإدعاء، ولكنه طريق صحبة واقتداء، فإن التصوف إذا خلا عن العمل والسلوك والإخلاص والمجاهدة، مع صحبة الأبرار والاقتداء بالأخيار-وكل ذلك من أركان ومعالم الطريقة-كان مجرد فلسفة فارغة لا ثمرة لها، ولا جدوى ترتجى منها، والصوفية أبعد الناس عن ذلك في الحقيقة، وإذا أردنا دليلًا يؤكد هذا الكلام، فليس هناك أوضح من أن يراجع الإنسان منهج أي طريقة من الطرق المعتمدة عن السادة الصوفية؛ ليتعرف على مقدار ما يلتزمه المريدون من أوامر الشرع وآدابه وأخلاقه، ليدرك على الفور مدى أهمية الطريقة في ترتيب وتنظيم حياة السالك على نحو يوافق الشرع الشريف ويحقق مراد الله منه؛ فإن لكل طريقة أورادًا بالليل والنهار بترتيب معين ونسق معلوم، مع التزام بالأخلاق والآداب والأذكار، مع الأمر الصريح بعدم تعطيل المعايش وسائر أمور الحياة، وكأن السالك المريد يطير إلى الله بجناحي العبادة والعمارة معًا!
ولذلك نُقل عن سيدي الإمام أبي الحسن الشاذلي أنه كان لا يحب المريد المتعطل عن الكسب(5)، فلا يجوز أن نهمل ما أقامنا الله فيه من أعمال نافعة لنا وللناس من حولنا؛ بسبب اشتغالنا بالعبادة والمجاهدات.
ولذلك فالطريقة مجاهدة وعمل، وعبادة وعمارة، وذكر وفكر، وإخلاص ومحبة، وبذل وعطاء، وفهم واقتداء.
فلا يمكن تطبيق مفاهيم التصوف إلا بواسطة الطريقة التي توضح لكل مريد وسالك ما يناسب حاله ووقته وظروفه من آداب الشريعة وأوامرها الظاهرة والباطنة كي يسير إلى الله على بينة من أمره.
وللحديث بقية عن الطريقة وشرائطها والرد على الشبهات المثارة من النابتة الخوارج.
1 المعدن:الأصل ؛ انظر:لسان العرب لابن منظور4/ 2844ط.دار المعارف
2 تاج العروس من جواهر القاموس لمحمد مرتضى الزبيدي26/ 73ط.دار الهداية، وقد حقق بعض علماء اللغة مادة(ط ر ق)على نحو أكثر عمقا واتساعا كما فعل ابن فارس في كتابه مقاييس اللغة[3/449]فقال: "الطاء والراء والقاف أربعة أصول، أحدها:الإتيان مساء، والثاني:الضرب، والثالث:جنس من استرخاء الشيء، والرابع:خصف شيء على شيء"ومن تأمل هذه المعاني وجد أنها تكاد تجتمع بنسب متفاوتة في معنى الطريقة ولكن خشية الإطالة نكتفي بهذه الإشارة!
3 البيان لما يشغل الأذهان أ.د علي جمعة1/336بتصرف يسير؛ط.المقطم2009م
4 تفسير الطبري23/ 662ط.الرسالة2000م
5 انظر كتاب المدرسة الشاذلية للأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود صـ71ط.دار الكتب الحديثة