السنة الأولى ربيع الأنور 1443 هـ - أكتوبر 2021 م


الشيخ. أشرف سعد الأزهري
محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأدلة الاحتفالِ بمولده الشريف
الشيخ. أشرف سعد الأزهري

الحب لجنابه الأعظم الشريف صلى الله عليه وسلم هو المعنى الأسمى والمظهر الأسنى والغاية العظمى من الاحتفَاء والاحتفال بذكْرَى مَولدِه صلى الله عليه وآله وسلم وهو مظهرٌ مِنْ مظاهرِ تَحقيقِ قولِه صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»([1]).

ومحبَّةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مظهرٌ من مظاهر محبَّةِ الله سبحانه وتعالى، فمَنْ أحبَّ الله أحَبَّ رَسُولَه صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الذي جاء لنا بالخيرِ وتَحمَّلَ في سبيل ذلك ما تحمَّل من عناءٍ ومشقَّةٍ كما هو معلومٌ من سِيرَتِه الشَّريفة صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاءتِ الأحاديثُ الشَّريفةُ بإخبارنا بالمكانةِ التي يجبُ أن تكونَ لرسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم في قلوبِنا حتى نُحقِّقَ أصلَ الإيمانِ وكمالَه، يقولُ الحافظ ابنُ رجبٍ الحنبليُّ رحمه الله: «محبَّةُ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن أصولِ الإيمان، وهي مقارِنةٌ لمحبَّةِ الله عزَّ وجلَّ، وقد قرنَها الله بها، وتوعَّدَ مَنْ قدَّم عليهما محبَّةَ شيءٍ من الأمور المحبوبة طبعًا مِنَ الأقاربِ والأموالِ والأوطانِ وغير ذلك قال تعالَى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾ [التوبة: 24].

ولمَّا قالَ عمرُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: أنْتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلَّا من نفسي فقالَ: «لا يا عمرُ؛ حتَّى أكونَ أحبَّ إليك مِن نفسكَ» فقال عمرُ: والله أنت الآن أحبُّ إليَّ من نفْسِي، قالَ: «الآنَ يا عمرُ»([2]).

وتعالوا لنَنظُرْ إلى حبِّ الصَّحابةِ لرسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلوكِهم معه صلى الله عليه وآله وسلم، وعند ذلك سوف نعرفُ ما مقدار المودَّةِ التي تجب أن تكونَ لرسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم في قلوبنا، فمِنْ أمثلةِ ذلك:

ما أخرجَه الطَّبرانيُّ عن عائِشةَ رضي الله عنها قالتْ: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسولَ الله إنَّك لأحبُّ إليَّ مِنْ نفسي، وإنَّك لأحبُّ إليَّ مِنْ ولَدِي، وإنِّي لأكون في البيت فأذكُركَ فما أصبرُ حتَّى آتيَ فأنظُر إليك، وإذا ذكرتُ مَوْتي وموتَك عرفتُ أنَّك إذا دخلْتَ الجنَّة رُفعتَ مع النَّبيِّينَ، وإنِّي إذا دخلتُ الجنَّة خشيتُ ألَّا أراكَ. فلم يردَّ عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا حتَّى نزَلَ جبريلُ عليه السَّلام بهذه الآيةِ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النِّساء: 69]([3]).

وفي الصَّحيحِ من حديثِ أبي جُحيفةَ قال: «أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فخرجَ بلالٌ بوضوئِه فرأيتُ النَّاسَ يَبتدرونَ ذلك الوضوءَ فمَنْ أصابَ منه شيئًا تمسَّحَ به، ومَن لم يُصِبْ مِنْه أخذَ من بللِ يَدِ صاحبِه([4]).

وعنه أيضًا أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قام النَّاسُ فجَعَلُوا يأخذونَ يدَهُ ويمسحونَ بها وجُوهَهُم، فأخذتُ يدَه فوضعتُها على وجهِي فإذا هيَ أبردُ منَ الثَّلج وأطيبُ مِنْ ريحِ المسكِ»([5]).

وهذا أنسُ بن مالِك رضي الله عنه خادمُ رسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم يصفُ لنا مشهدًا آخرَ من مَشاهدِ المحبَّةِ والإجلالِ من الصَّحَابةِ لرسولهِم الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؛ ففي صحيحِ مُسلمٍ عن أنسٍ قال: «لقَدْ رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم والحلَّاقُ يَحلِقُه، وأطافَ به أصحابُه، فما يُرِيدونَ أن تقعَ شَعرةٌ إلَّا في يد رَجُلٍ»([6]).

وهذا  عمرو بن العاص رضي الله عنْه يقولُ: «وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رَسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أجلَّ في عَيْنِي مِنهُ، وما كنتُ أُطيقُ أَنْ أملأَ عيني منه إِجْلالًا لَهُ، ولو سُئلتُ أَنْ أصفَه ما أطَقْتُ؛ لأنَّي لم أكن أملأُ عَيْني مِنْه»([7]).

في غزوَةِ بدرٍ كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقومُ بتَعْديلِ صفوفِ المسلِمينَ ويُسوِّي بينها، وكان في يدَيه قدحٌ، وهو شيءٌ يُشبِهُ العَصا القَصيرةَ يُعدِّل بِها، وكان سَوَادُ بن غَزِيَّة مُستَنصِلًا من الصَّفِّ فطَعَنه صلى الله عليه وآله وسلم في بطنِه بالقَدَحِ وقال: «استَوِ يا سَوَاد» فقال سَوادُ: يا رسولَ الله أوجعتَنِي فَأقِدْنِي. فكشف صلى الله عليه وآله وسلم عن بطنِه وقال: «استَقِد» فاعتَنقَه سوادُ وقبَّل بطنَه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ما حَملَكَ على هذا يا سَوادُ؟» قال: يا رسولَ الله قد حضرَ ما ترى فأردتُ أن يكون آخِرَ العهد بكَ أَنْ يمسَّ جلدِي جلدَك، فدَعَا له رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بخَيرٍ([8]).

وكان المُسلمونَ يطلبونَ بَركةَ رسُولِ الله ويتتبَّعونَ ذلك؛ فقد روَى مسلمٌ عن أنسِ بن مالك رضِي الله عَنْه قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلَّى الغداةَ جاءَ خدمُ المدينةِ بآنيتِهم فيها الماءُ فما يؤتَى بإناءٍ إلَّا غمسَ يدَه فيها، فربَّما جاءُوه في الغَداةِ الباردَةِ فيَغمسُ يدَه فيها»([9]).

وهذا عبدُ الله بنُ عمرَ يتبعُ الأماكنَ الَّتي صلَّى رسولُ الله فيها فيصلِّي فيها([10])، ويتبعُ أماكنَ مَشْيهِ صلى الله عليه وآله وسلم فيمشي عليها، ويضعُ يدَهُ على مقعدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من المِنْبر، ثمَّ يمسحُ بها وجهَه رجاءَ البَركةِ([11]).

إيراد أقوال أهل العلم والأدلة الشرعية الدالة على استحباب الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

إنَّ الاحتفالَ بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بِدعًا من القول أو الفعل، فقد ورد في السنة المطهرة  ما يؤصل للاحتفال بمولدِه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ففي صحيح مسلم عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الإثْنَيْنِ؟ قالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ- أَوْ- أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ»([12]).

فنحن إذا تأمَّلنا هذا الحديث وجدناه نصًّا واضحًا في هذه المسألة؛ فقد صام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الإثنين لأنه ذكرى مولده، وذلك إظهارًا لشكر الله سبحانه وتعالى، والصِّيامُ من أفضلِ القربات التي يتقرَّب بها العبد إلى ربِّه، وهذا الصيام منه صلى الله عليه وآله وسلم هو في حقيقة الأمر احتفالٌ منه بهذا اليوم الَّذي عبَّر فيه بقوله: «وُلدتُ فِيه».

وقد تكلَّم الجلالُ السيوطيُّ عن شهر ربيعٍ الذي وُلدَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وساق كلامًا عن الحديث السَّابق فقال: «أشارَ عليه السَّلام إلى فضيلةِ هذا الشَّهرِ العظيمِ بقوله للسَّائل الذي سألَه عن صومِ يومِ الإثنين: «ذاكَ يومٌ وُلدْتُ فيه» فتشريفُ هذا اليوم مُتضمِّنٌ لتشريفِ هذا الشَّهر الذي وُلدَ فيه، فينبغي أن نحترمَه حقَّ الاحترام ونفضِّله بما فضل اللهُ به الأشهر الفاضلة وهذا منها؛ لقوله عليه السَّلام: «أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ»([13]). «آدمُ فمَنْ دونَه تحتَ لوائِي»([14]). وفضيلةُ الأزمنةِ والأمكنةِ بما خصَّها الله به من العباداتِ الَّتي تُفعلُ فيها لما قد علم أنَّ الأمكنةَ والأزمنةَ لا تشرف لذاتِها، وإنما يحصُلُ لها التَّشريفُ بما خُصَّتْ به من المعاني، فانظرْ إلى ما خَصَّ اللهُ به هذا الشهرَ الشَّريف ويوم الإثنين، ألا تَرَى أنَّ صومَ هذا اليوم فيه فضلٌ عظيمٌ؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم وُلِدَ فيه، فعلى هذا ينبغِي إذا دخل هذا الشَّهرُ الكريم أن يكرم ويعظَّم ويُحترم الاحترام اللَّائق به اتِّباعًا له صلى الله عليه وآله وسلم في كونه كان يخصُّ الأوقاتَ الفاضلة بزيادةِ فِعل البرِّ فيها وكثرةِ الخيراتِ، ألا تَرى إلى قول ابن عبَّاسٍ: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجودَ الناس بالخيرِ وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ»([15]). فنمتثلُ تعظيمَ الأوقاتِ الفاضلة بما امتثله على قدر استطاعتِنا»([16]).

أقوالُ أهل العلم في الاحتفالِ بمولده صلى الله عليه وآله وسلم:

- يقول الحافظُ السُّيوطيُّ رحمه الله نقلًا عن الحافظِ ابن حجرٍ العسقلانيِّ: «وقدْ سُئِلَ شيخُ الإسلام حافظُ العصر أبو الفضل بن حجر عن عمل المولدِ فأجابَ بما نصُّه: أصلُ عمل المولد بِدعةٌ لم تُنقلْ عن أحدٍ من السَّلف الصَّالح من القرونِ الثَّلاثة، ولكنَّها مع ذلك قدِ اشتملتْ على محاسنَ وضدِّها، فمَنْ تحرَّى في عملِها المحاسنَ وتجنَّبَ ضدَّها كان بدعةً حسنةً وإلَّا فلا، قال: وقد ظهرَ لي تخريجُها على أصلٍ ثابتٍ وهو ما ثبتَ في الصَّحيحيْنِ من أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَدِمَ المدينة فوجدَ اليهودَ يصومونَ يوم عاشوراءَ، فسألهم فقالوا: هو يومٌ أغرقَ اللهُ فيه فرعونَ ونجَّى موسى فنحن نصومُه شكرًا لله تعالى([17]).

ثم يقول السيوطيُّ: «قلتُ: وقد ظهرَ لي تخريجُه على أصلٍ آخرَ، وهو ما أخرجَه البَيهقيُّ عن أنسٍ: أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عقَّ عن نفسِه بعد النبوَّة([18]). مع أنَّه قد وردَ أنَّ جدَّه عبد المطَّلبِ عقَّ عنه في سابع ولادتِه، والعقيقةُ لا تُعادُ مرةً ثانيةً، فيُحملُ ذلك على أنَّ الذي فعلَه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إظهارٌ للشُّكرِ على إيجاد الله إيَّاه رحمةً للعالمين وتشريعٌ لأُمته كما كان يُصلِّي على نفسه لذلك، فيُستحبُّ لنا أيضًا إظهارُ الشُّكرِ بمولدِه بالاجتماعِ وإطعامِ الطَّعامِ ونحو ذلك من وُجُوهِ القُرباتِ وإظهارِ المسرَّات، ثم رأيتُ إمامَ القرَّاء الحافظَ شمسَ الدِّين ابنَ الجزريِّ قال في كتابه المُسمَّى: «عُرف التَّعريفِ بالمولدِ الشَّريف» ما نصُّه: قد رُئيَ أبو لهب بعد موتِه في النوم، فقِيلَ له: ما حالُك، فقال: في النَّارِ، إلَّا أنه يُخفَّفُ عني كلَّ ليلةِ إثنينِ وأمصُّ من بين إصبعيْ ماءً بقدرِ هذا- وأشار لرأس إصبعه- وأنَّ ذلك بإعتاقي لثويبةَ عندما بشَّرتْنِي بوِلادةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وبإرضاعِها له.

فإذا كان أبُو لهبٍ الكافرُ الذي نزل القرآنُ بذمِّه جُوزيَ في النار بفرحِه ليلةَ مولدِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم به، فما حالُ المسلم الموحِّد من أُمَّةِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُسَرُّ بمولدِه ويَبذلُ ما تَصِلُ إليه قدرتُه في محبَّتِه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لعمري إنَّما يكون جزاؤُه من الله الكريمِ أنْ يُدخلَه بفضلِه جناتِ النَّعيمِ.

وقال الحافظُ شمس الدين ابن ناصر الدِّين الدمشقي في كتابِه المسمى: مَورد الصَّادي في مولد الهادي: قد صَحَّ أنَّ أبا لهبٍ يخفَّفُ عنه عذاب النارِ في مثل يوم الإثنين لإعتاقه ثويبةَ سرورًا بميلادِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أنشد:

إذَا كانَ هذَا كافرًا جاء ذمُّه

وتبَّتْ يداه في الجحيمِ مُخلَّدَا

أتى أنَّه في يوم الاثنينِ دائمًا

يُخفَّفُ عنه للسُّرورِ بأحمدَا

فما الظَّنُّ بالعبدِ الذي طولَ عُمرِه

بأحمدَ مسرورًا ومات موحِّدَا([19])

وقال الكمال الأُدفُويُّ في «الطَّالع السَّعيد»: حكى لنا صاحبُنا العدل ناصر الدِّين محمود ابن العماد أنَّ أبا الطيب محمد بن إبراهيم السَّبتيَّ المالكيَّ نزيل قوص، أحد العلماءِ العاملينَ، كان يجوزُ بالمكتب في اليوم الذي فيه وُلد النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: يا فقيه، هذا يوم سرورٍ اصرف الصبيانَ، فيصرفنا، وهذا منه دليلٌ على تقريرِه وعدم إنكارِه، وهذا الرجلُ كان فَقيهًا مالكيًّا متفننًا في علومٍ، متورعًا، أخذ عنه أبو حيان وغيرُه، ومات سنة خمس وتسعين وستمائة»([20]).

- ويقولُ الإمامُ السيوطيُّ أيضًا: «عندِي أنَّ أصلَ عمل المولدِ الذي هو اجتماعُ الناسِ وقراءة ما تيسَّرَ من القرآنِ ورِوايةُ الأخبار الوارِدةِ في مبدأ أمر النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وما يمدُّ لهم سماطٍ يأكلونه وينصرفونَ من غير زيادةٍ على ذلك- هُو من البدع الحسنةِ التي يثابُ عليها صاحبُها؛ لما فيه من تعظيمِ قدرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وإظهارِ الفرحِ والاستبشارِ بمولدِه الشريفِ، وأوَّلُ مَن أحدثَ فِعلَ ذلك صاحبُ إِرْبِل الملك المظفَّر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين، أحد الملوكِ الأمجاد والكُبراء الأجواد، وكان له آثارٌ حسنة... قال ابنُ كثيرٍ في تاريخِه: كان يعملُ المولد الشريف في ربيع الأول ويَحتفِلُ به احتفالًا هائلًا، وكان شَهمًا شجاعًا بطلًا عاقلًا عالمًا عادلًا، رحمَه الله وأكرمَ مَثواه، قال: وقد صنَّفَ له الشيخُ أبو الخطاب بن دحية مجلدًا في المولدِ النَّبويِّ سماه: التَّنوير في مولدِ البشير النذير. فأجازه على ذلك بألفِ دِينارٍ، وقد طالتْ مدتُه في الملك إلى أن ماتَ وهو محاصِرٌ للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة، محمود السِّيرة والسَّريرةِ»([21]).

- وينقلُ لنا الشيخُ عليُّ بن برهان الدين الحلبيُّ طَرَفًا من ذلك في سيرته الحلبيَّة فيقولُ: «قالَ ابنُ حجر الهيتميُّ: والحاصِلُ أنَّ البدعةَ الحسنةَ متَّفقٌ على ندبِها، وعملُ المولدِ واجتماع النَّاس له كذلكَ؛ أي بدعةٌ حَسنةٌ، ومِنْ ثَمَّ قال الإمام أبو شامة شيخ الإمام النَّوويِّ: ومن أحسن ما ابتدعَ في زمانِنا ما يُفعلُ كلَّ عامٍ في اليوم الموافِقِ ليومِ مولدِه صلى الله عليه وآله وسلم من الصَّدقاتِ والمعروفِ وإظهارِ الزِّينةِ والسُّرورِ، فإنَّ ذلك مع ما فِيه من الإحسانِ للفقراء مُشعرٌ بمحبَّته صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمِه في قلبِ فاعل ذلك وشكرِ الله على ما مَنَّ به من إيجاد رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله رحمةً للعالمين... قال السَّخاويُّ لم يفعله أحدٌ من السَّلف في القرونِ الثَّلاثةِ، وإنَّما حدثَ بعدُ، ثمَّ لا زال أهل الإسلام من سائِرِ الأقطارِ والمدنِ الكبار يعملونَ المولد ويتصدَّقونَ في لياليه بأنواعِ الصَّدقاتِ ويَعتنونَ بقراءةِ مولدِه الكريمِ ويظهر عليهم من بركاتِه كلَّ فضلٍ عميمٍ، قال ابنُ الجوزيِّ: من خَوَاصِّه أنَّه أمانٌ في ذلك العام وبُشرى عاجلةٌ بنيلِ البُغيةِ والمرامِ... وقدِ استخرجَ له الحافظُ ابن حجر أصلًا من السُّنَّةِ وكذا الحافظُ السيوطيُّ ورَدَّا على الفاكهانيِّ المالكيِّ في قوله إنَّ عمل المولد بدعة مذمومةٌ»([22]).

وقد ذكر ابنُ الحاجِّ جواز واستحباب الاحتفالِ بمولدِه صلى الله عليه وآله وسلم مع تجنُّبِ المحرَّماتِ والبُعد عن البدع فقال: «هذا الشهرُ الكريمُ الَّذي مَنَّ الله تعالَى علينا فيه بسيِّد الأوَّلين والآخرينَ، فكان يجبُ أن يُزادَ فيه من العباداتِ والخير شكرًا للمولى سبحانَه وتعالَى على ما أولانا من هذه النِّعمِ العظيمةِ وإن كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَزِدْ فيه على غيره من الشُّهور شيئًا من العباداتِ وما ذاك إلا لرحمتِه صلى الله عليه وآله وسلم بأمَّتِه ورفقِه بهم لأنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يتركُ العَملَ خشيةَ أن يُفرضَ على أمتِه رحمةً منه بِهم كما وَصَفَه المولَى سبحانَه وتعالَى في كتابه حيث قال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128] لكن أشار عليه الصَّلاة والسَّلام إلى فضيلةِ هذا الشَّهرِ العظيمِ بقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام للسائل الذي سأله عن صوم يوم الإثنين فقال له عليه الصلاة والسلام: «ذلك يومٌ ولدتُ فيه» فتَشريفُ هذا اليوم مُتضمِّنٌ لتشريفِ هذا الشهر الذي وُلدَ فيه، فينبغِي أن نحترمَه حقَّ الاحترامِ ونفضلَه بما فضَّلَ الله به الأشهرَ الفاضلةَ، وهذا منها؛ لقوله عليه الصلاة والسَّلام: «أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ». ولقولِه عليه الصلاة والسلام: «آدمُ ومَن دونَه تحت لوائي» انتهى. وفضيلةُ الأزمنةِ والأمكنة بما خصَّها الله تعالى به من العباداتِ التي تُفعلُ فيها؛ لما قد عُلِمَ أنَّ الأمكنةَ والأزمنةَ لا تتشرفُ لذاتِها وإنَّما يحصل لها التشريفُ بما خُصَّت به من المعاني.

فانظر رَحِمَنا الله وإيَّاك إلى ما خَصَّ الله تعالى به هذا الشَّهر الشريف ويوم الإثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضلٌ عظيمٌ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم وُلِدَ فيه، وعلى هذا ينبغي إذا دخلَ هذا الشهرُ الكريم أن يُكرَّمَ ويعظَّمَ ويُحترمَ الاحترام اللَّائقَ به، وذلك بالاتباع له صلى الله عليه وآله وسلم في كونِه عليه الصَّلاة والسَّلام كانَ يخصُّ الأوقاتَ الفاضلةَ بزيادةِ فعل البِرِّ فيها وكثرة الخيراتِ، ألا ترى إلى قولِ البخاريِّ رحمَه اللهُ تعالى: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أجودَ الناسِ بالخير وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ([23]). فنمتثل تعظيمَ الأوقات الفاضلة بما امتثلَه عليْه الصَّلاة والسَّلام - على قدر استطاعتِنا»([24]).

فهذه نبذة من كلام أئمَّةِ الإسلام وحفَّاظِ الحديث وشرَّاحِ السنةِ النبويَّةِ من أهل العلم قديمًا عن الاحتفال بذكرَى مَولدِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم نلحظُ فيه أنَّ مفهومَ بدعيةِ الاحتفال بمولد سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يختلفُ عن غيرِهم ممَّن يحاولونَ فرضَ تلك المفاهيم المغلوطةِ على المسلمينَ من الطَّوائف التي تدَّعِي الانتسابَ للسَّلفِ والعِلم والسُّنَّةِ النبويَّة، وأنَّهم كانوا يَرونَ في الأمر سَعة ما دام له أصلٌ في الشريعة يندرجُ تحتَه.

ونسوقُ بعض أقوالِ أهل العلم المعاصرين في قضيَّةِ الاحتفال بمولدِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم:

- يقولُ الشَّيخ الإمام محمد الطَّاهر بن عاشور شيخ جامع الزَّيتونة والذي يُعدُّ من أبرز علماء المالكيَّةِ في العصر الحديث: «جعل اللهُ للمواقيتِ المحدودة اعتبارًا يُشبهُ اعتبارَ الشيءِ الواحد المتجدِّد، وإنَّما هذا اعتبارٌ للتَّذكيرِ بالأيَّامِ العظيمة المقدارِ كما قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: 5] فخلعَ اللهُ على المواقيتِ التي قارنها شيءٌ عظيمٌ في الفضلِ أن جعلَ لتلك المواقيت فضلًا مُستمرًّا تنويهًا بكونها تذكرةً لأمرٍ عظيمٍ، ولعلَّ هذا هو الذي جعل الله لأجله سُنة الهَدي في الحجِّ؛ لأنَّ في مثل ذلك الوقت ابتلى اللهُ إبراهيمَ بذبحِ ولدِه إسماعيلَ، وأظهر عزمَ إبراهيم وطاعتَه ربَّه، ومنه أخذَ العلماءُ تعظيمَ اليوم الموافِقِ ليومِ وِلادةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ويجيءُ من هذا إكرام ذرِّيَّةِ رسول الله وأبناءِ الصَّالحينَ وتعظِيمِ ولاةِ الأمورِ الشرعيَّة القائمينَ مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أعمالِهم من الأمراءِ والقُضاةِ والأئمَّةِ»([25]).

- ويقول الشَّيخ محمد حسنين مخلوف شيخ الأزهر الأسبق: «إنَّ إحياءَ ليلةِ المولد الشَّريفِ وليالي هذا الشَّهرِ الكريم الذي أشرقَ فيه النُّورُ المحمَّديُّ إنَّما يكون بذِكْرِ الله تعالى وشُكرِه لما أنعمَ به على هذه الأمَّةِ من ظهور خيرِ الخَلقِ في عالم الوُجودِ، ولا يكونُ ذلك إلَّا في أدبٍ وخشوعٍ وبُعدٍ عنِ المحرَّماتِ والبدعِ والمُنكراتِ. ومن مظاهِرِ الشُّكرِ إطعامُ الطَّعامِ على حُبِّه مِسكينًا ويتيمًا، ومواساة المحتاجينَ بما يخفِّفُ ضائقتَهم وصلة الأرحام، والإحياءُ بهذه الطَّريقة وإن لم يكنْ مأثورًا في عهدِه صلى الله عليه وآله وسلم ولا في عهدِ السَّلفِ الصَّالحِ إلا أنَّه أمرٌ لا بأسَ به وبدعةٌ حسنةٌ»([26]).

فهذِه نماذجُ من كلامِ أهلِ العِلمِ ونظرتِهم للاحتفالِ بذكْرَى مولدِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم والقول بمشروعيَّتِه، فهل غابَ عنْ كلِّ هؤلاء العلماءِ مفهوم البدعة والتَّحريم الذي يُنادِي به مَنْ يُحرِّمُ الاحتفالَ بمولده الشَّريف؟ وهل لو كان هناك دليلٌ يصلحُ للتَّحريمِ أو التَّبديعِ أَمَا كانَ يتَّضحُ أمام العلماء السَّابقينَ، وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] متفق عليه؛  من حديث أنس بن مالك.

[2]فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/48).

[3]أخرجه الطبراني في الصَّغير (52)، والأوسط (477) عن عائشة رضي الله عنها به. وقال الطَّبرانيُّ: «تفرَّدَ به عبد الله بن عمران»..

[4] متفق عليه.

[5]جزء من حديث أخرجه البخاريُّ في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3553).

[6]أخرجه مسلم (2325).

[7]جزء من حديث أخرجه مسلم (121).

[8]أخرج ابنُ هشامٍ في سيرتِه (1/626)، والطَّبريُّ في تاريخِه (2/446).

[9] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النَّاس وتبرُّكهم به (2324).

[10]ورد ذلك في حديثٍ أخرجه البخاريُّ (483) عن موسى بن عقبة قال: «رأيتُ سالم بن عبد الله يتحرَّى أماكنَ من الطَّريق فيصلِّي فيها، ويحدِّث أنَّ أباه كان يصلي فيها، وأنَّه رأى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي في تلك الأمكنة» وحدَّثني نافع عن ابن عمر: «أنَّه كان يصلِّي في تلك الأمكنة».

[11]أخرج ابن سعدٍ في الطَّبقاتِ الكبرى (1/218).

[12]جزء من حديث أخرجه مسلم (1162) من حديث أبي قتادة الأنصاري .

[13]جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الخلائق (2278) من حديث أبي هريرة .

[14] جزء من حديث أخرجه الترمذي (3148)، وابن ماجه (4308)،. وقال الترمذي: «حسن صحيح».

[15] متفق عليه.

[16] الحاوي للفتاوى (1/194) تأليف: جلال الدين السيوطي- دار الكتب العلمية- بيروت-1983م.

[17]متفق عليه من حديث ابن عباس .

[18]أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7960)، والبيهقي في الكبرى (9/ 300).

[19]الحاوي للفتاوى (1/196-197).

[20]الحاوي للفتاوى (1/196-197).

[21]الحاوي للفتاوى (1/222).

[22]السيرة الحلبية= إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (1/137) تأليف: أبي الفرج علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي- دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الثانية- 1427هـ.

[23]تقدم تخريجه.

[24]المدخل (2/2-3) تأليف: أبي عبد الله محمد بن محمد الشهير بابن الحاج- دار التراث- القاهرة.

[25] التَّحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد» (2/172) تأليف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور- الدار التونسية للنشر- تونس- 1984م.

[26] فتاوى شرعية وبحوث إسلامية (1/131) تأليف: حسنين محمد مخلوف.