
مِن بِدع النابتة في رمضان
د. مختار محسن الأزهريينتظر المسلمون في كل عام شهر رمضان، الذي تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين([1]) ، ومعنى ذلك كما يقول مولانا وشيخنا الأستاذ الدكتور علي جمعة أن رمضان موسم فيه معونة ربانية على الطاعة، والجو العام يساعد على الإقبال على الطاعات وتجنب المعاصي، لكن ذلك لا يحول عادة دون وقوع بعض الأخطاء والتجاوزات في حق الشرع الشريف؛ خاصة تلك التي ترتكب ممن يطلق عليهم "النابتة" ممن خالفوا طريق الصالحين وراحوا يعوقون مسيرة الأمة عن غاياتها ومقاصدها الحقيقية إلى غايات ومقاصد زائفة ليست من الدين في شيء.
ومن هنا فسوف أتعرض من خلال هذا المقال لبعض بدع هؤلاء النابتة ممن رفعوا شعار"السلفية" تمسحًا في عصر السلف الصالحين؛ وخداعًا لعموم المسلمين عن مسلكهم المعوج الذميم.
فمن البدع التي نشروها وأذاعوها في الأمة واقترنت كل عام بالشهر الفضيل:
1- بدعة التشكيك في بداية الشهر الكريم:
من أسوأ ما نشره النابتة وسعوا في إشاعته في كثير من بلاد المسلمين التشكيك في الرؤية الشرعية لهلال شهر رمضان خاصة وسائر الشهور الهجرية بشكل عام؛ حيث يقومون في كل عام -خاصة إذا خالف أول الشهر بلدا معينة- بزعم أن الصوم لم يكن موافقًا للرؤية الشرعية؛ وبناء على ذلك يتشكك بعض الناس فيما استقر عند معظم المسلمين جيلًا بعد جيل أن رؤية الأهلة يختص بها أولياء الأمر من الحكام والقضاة دون عموم الناس، وأنه لا يصح أن نشكك في شهادة مسلم ثبتت عند ولي الأمر؛ قال الشيخ الخطيب الشربيني في الإقناع : " وتثبت رؤيته في حق من لم يره بعدل شهادة «لقول ابن عمر: أخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم أني رأيت الهلال فصام وأمر الناس بصيامه» رواه أبو داود وصححه ابن حبان، ولما روى الترمذي وغيره «أن أعرابيا شهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - برؤيته فأمر الناس بصيامه» والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط للصوم وهي شهادة حِسبة"([2])
فبان من ذلك وما ورد من الأحاديث أن شأن الهلال مخصوص بأولياء الأمور وممن أنيط بهم ذلك كما في زمننا وبلدنا من دار الإفتاء المصرية التي تختص ببيان الرؤية الشرعية ويصوم الناس بناء على ما يصدر عنها من بيان شرعي.
ولأن هؤلاء النابتة أهل فتنة وزيغ فهم يسارعون في كثير من الأحيان لاتهام العلماء المختصين بتضييع الدين، ويزرعون في قلوب عموم الناس الشك في رؤية الشهر الفضيل ابتداء أو انتهاء؛ ظنًا منهم أنهم أكثر حرصًا على دين الله من هؤلاء العلماء المختصين، وهي نزغة من نزغات الشيطان في قلوب هؤلاء النابتة تُظهر ما تربوا عليه من كِبر وعدم احترام للعلماء، ولا لما يتخذه أولياء الأمور من إجراءات شرعية.
2- بدعة الإفتاء بجواز إتمام الشرب عند سماع أذان الفجر:
من جملة جرأة هؤلاء النابتة على الإفتاء في دين الله قولهم بجواز إتمام الشرب والأكل لمن سمع الأذان وهو يأكل أو يشرب! ويستدلون على هذا الهذيان بحديث رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» فزعم هؤلاء النابتة -خلافا للعلماء المعتبرين- أن الحديث يرشدنا إلى جواز إكمال الشرب أو بلع الطعام مع سماع أذان الفجر([3])، وإذا تجاوزنا الكلام عن إسناد الحديث فإن العلماء قرروا في وضوح أن الحديث مقصده ما كان يقع في زمن النبي ﷺ من وجود أذانين أحدهما قبل الوقت للتنبيه على اقتراب موعد الفجر الحقيقي ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :" إن بلالا يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" وبالتالي فقد أكد العلماء أن الحديث الثاني يفسر به الحديث الأول؛ من طلع الفجر وفي فيه طعام فليلفظه ويتم صومه فإن ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه وهذا لا خلاف فيه ودليله حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " رواه البخاري ومسلم وفي الصحيح أحاديث بمعناه (وأما) حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه " وفي وراية " وكان المؤذن يؤذن إذا بزع الفجر " فروى الحاكم أبو عبد الله الرواية الاولي وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ورواهما البيهقي ثم قال وهذا إن صح محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه ينادى قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر قال وقوله إذا بزغ يحتمل أن يكون من كلام من دون أبي هريرة أو يكون خبرا عن الأذان الثاني ويكون قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده " خبرا عن النداء الأول ليكون موافقا لحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قال وعلى هذا تتفق الأخبار"([4])
فما جاء به هؤلاء النابتة يخالف ما استقر عند جماهير العلماء وما درجت عليه الأمة من الاحتياط للعبادة لا سيما ركن من أركان الإسلام وهو صوم رمضان.
3- تغيير مقصود عبادة رمضان:
من أعظم البدع التي يقع فيها هؤلاء النابتة وينشرونها بين الناس بدعة تغيير مقصود عبادة رمضان بعد أن غيروا مفهوم العبادة في الشرع؛ فالعبادة في الشرع الشريف تشمل كل ما يفعله الإنسان قربة لله تعالى وورد التعبد به([5]) ، وقال الفخر الرازي في تعريف العبادة إنها: " التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله"([6]) وبالتالي فهذا المفهوم لا يقتصر على مجرد الصلاة والزكاة والحج والأذكار ونحو ذلك، بل إنه يشمل أيضًا العبادة بمفهومها الأعم من كل عمل صالح فيه نفع لخلق الله.
ورغم وضوح هذه الحقائق إلا أن النابتة لما دعوا إلى كثرة العبادات في رمضان وضعوا برامج وترتيبات من شأنها أن تقصر مفهوم العبادة على بعضها دون بعض، وبعض هذه التراتيب أو البرامج يشعر معه المرء وكأن الشرع قد طلب من المسلمين إيقاف سائر شئون الحياة في رمضان! وليس الأمر كذلك؛ فرمضان لم يأت من أجل أن نتوقف عن نفع الناس ولا عن تحصيل معاشنا والقيام بما أقامنا الله فيه، فالمسلم بمجرد صومه ومحافظته على واجبات الصيام وآدابه يكون في عبادة عظيمة لا يعلم قدرها إلا الله عزوجل، وبالتالي فلا مانع من أن يختار كل مسلم لنفسه ما يناسبه من الترتيب ليومه وفق ما يسمح به وقته وجهده، وليس من الحكمة ولا من الشرع أن يحزن المسلم على عدم قدرته على القيام بجميع النوافل في رمضان إذا كان قد أدى بعضها أو على الأقل قد حقق مقصود رمضان من صيام رمضان لينتصر على شهواته ونفسه على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، مع قيامه بواجباته الحياتية المختلفة تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه.
أما أن نرى بعض المسلمين يتنافسون في كثرة عدد الختمات وكثرة نوافل الصلوات والتزاحم على أماكن الاعتكاف مع تضييع واجبات التكاليف الحياتية والمصالح الاجتماعية فهذا ما ليس من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا مما درجت عليه الأمة في عصورها المختلفة من جعل رمضان شهر عمل وانتصار على الشهوات ومراجعة لأخطاء النفس ، حتى أننا لا زلنا نذكر تلك الحرب التي نصرنا الله فيها على الصهاينة في شهر رمضان الكريم 1393 هـ حيث دارت رحاها في هذا الشهر الكريم ولم يكن أبدا عائقا للأمة عن جهادها وانتصارها.
إذن على المسلم أن ينتهز فرصة شهر رمضان ليحقق مقصد العبادة من الخضوع لله عز وجل والمبادرة إلى تدارك الأوقات بالإقبال على ما تيسر له من طاعة مولاه من أنواع الطاعات، من غير أن يضيع واجباته الحياتية ومشاركته في نفع البلاد والعباد.
([1])روى النسائي في سننه( 4/129 )بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين
([2]) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1/234 ط.دار الفكر
([3]) من أشهر من دعا لهذه البدعة من هؤلاء النابتة شيخهم الألباني في كتبه انظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة 1/417 ط.دار الراية
([4]) المجموع شرح المهذب للإمام النووي 6/312
([5]) انظر: المجموع شرح المهذب 1/355
([6]) مفاتح الغيب للفخر الرازي 28/193ط.دار إحياء التراث