
ملخص كتاب الإشراقات عند الصوفية: حقيقتها وأنواعها وأدلتها الشرعية
مصطفى حسنيأما الإشراقة الثالثة التي اعتنى المؤلف د. مختار محسن الأزهري حفظه الله بشرحها وبيان حقيقتها، فهي الإشارات: وذكر تعريف الإمام السراج الطوسي في كتابه "اللمع" للإشارات: "أنها ما يخفى على المتكلم كشفه بالعباره لِلطَافة معناه".
و عرَّفَ المُصَنِّف الإشارات: أنها ما خفي ورقَّ من المعاني التي ترد على قلب السالك إلى الله ولدقَّة المعنى ورقته لم يستطع التعبير عنها إلا بإلاشارة.
وذكر أمثلة في كلام القوم للإشارات التي هي تغزلات وتلويحات بالمحبوب، كذكر سلمى وليلى وذكر الخمر والنديم وغير ذلك مما هو مذكور في أشعار القوم وتغزلاتهم، وكذكر الأقمار والنجوم والشموس، وكذكر البحار والإغراق، وقد ذكر المؤلف أن أصل الإشارات موجود في القرآن الكريم، كما نبَّه على ذلك الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي قُدِّسَ سره في صورة ضرب المثال في القرآن، قال تعالى ((وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون))، ومن ذلك الإشارة في قوله ((أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ)).
فجعل الزبد كالباطل الذي لا يعيش ولا يستمر، كقوله تعالى ((وزهق الباطل))، ثُمَّ قال ((وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)) فضربه مثلًا للحق الباقي بقدرة الله.
ثم ذكر المصنف حفظه الله أن أهل التفسير درجات منهم من وقف على ظاهر النص، ومنهم من تعدى إلى المعنى الشرعي والسياق المرعي في النص، ومنهم من جمع بين كل ذلك وبيَّن مقاصد النصوص ومراميها المرضية، فاتسع المعنى على قدر اتساع الرؤية، وفوق كل ذي علم عليم.
وأشار إلى ظهور عِلم من العلوم له اتصال وثيق بعلوم السادة الصوفية، مع مطابقته لقواعد علم التفسير وهو ما يسمى بالتفسير الإشاري، كمثل تفسير الإمام القشيري "لطائف الإشارات" الذي يقوم على المنهج الإشاري في التفسير، وقد عَرَّفَ العلماء ذلك النوع من التفسير ، بأنه: تأويل القرآن بغيرِ ظَاهِره لإشارة خَفيَّةٍ تَظهر لأرباب السّلوك والتصوف، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر والمراد أيضًا في شرط صحة التفسير الإشاري ألا يُخالف اللغة العربية وقواعدها ولا يكر على المعنى الأصلي بالبطلان، وإلا صار نوعًا من التحريف.
وأحب أن أختم بكلام ماتع نقله المصنف عن الإمام فخر الدين الرازي عن بعض الإشارات التي يتلقاها من يزور قبور الأولياء والصالحين فقال في كتابه "المطالب العالية": أن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان آخر، وكان المدفون قويَّ النفسِ كاملَ الجوهر شديدَ التأثير، ووقفَ الزائر عند القبر ساعة، وتأثرت نفسه من تلك التربة حصل لنفسِ هذا الزائر تعلقٌ بتلكَ التربة.
وقد عرفت أن لنفس ذلك الميت أيضًا تعلقًا بتلك التربة، فحينئذ يحصل لنفس هذا الزائر الحي ولنفس ذلك الإنسان الميت ملاقاة، بحيث إن اجتماعهما على تلك التربة تصير بهذا الاجتماع النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين، فينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى، فكل ما في نفس الزائر الحي من المعارف والعلوم والأخلاق والرضا عن الله ينعكس منه نور إلى روح الإنسان الميت، وكل ما حصل في نفس الإنسان المدفون من العلوم المشرفة والآثار القوية ينعكس منه نور إلى روح الزائر الحي وبهذه الإشارات تعظم المنفعة من الزيارة وتحصل البهجة العظمى لروح الزائر ولروح المزور المدفون. انتهى الكلام بتصرف.
فتحصل المنفعة العظمى من تلك الإشارات المتبادلة بين الزائر والمزور؛ ليتذكر الحي معاني الآخرة، وتتجدد عنده معاني المحبة والتبرك بآثار من سبقنا إلى الله زمانًا ومكانة.