السنة الأولى رمضان 1442 هـ - إبريل 2021 م


الشيخ. أشرف سعد الأزهري
ملامح المنهج الصوفي في التربية - 1
الشيخ. أشرف سعد الأزهري

يتميَّز المنهجُ الصُّوفيُّ في العنايةِ بالإنسانِ والنفس البشريَّةِ بميزاتٍ تباين بينَه وبين المناهج الأخرى من حيث شموليَّتُه وانفرادُه ببعض الميزاتِ التي لا توجدُ في أي منهجٍ آخرَ، فمنها على سبيل المثالِ:

1-تطبيقُ جميع التَّعاليم والآداب الشرعيَّة التي تصون النَّفس البشرية وتحفظ لها الانضباط، وذلك في إطار الرُّوحانية والشفافية القلبيَّة التي تجعل التَّعاليم الشَّرعيَّة منهجًا حيًّا يلمسُ الإنسان في اتِّباعه لذَّةً رُوحيَّةً ومتعةً معنويَّةً لا يعاني في تطبيقِها الجمودَ ولا الإحساسَ بالقيودِ.

2-وُجودُ العديدِ من طُرق التَّعامل مع النَّفس البشريَّةِ في المنهج الصوفيِّ، وذلك لتنوع الأنفسِ واختلافِ طبائِعها تبعًا لاحتواءِ المنهج الإلهيِّ على النُّور الذي يصلحُ لجميع أنواع النَّفس البشريَّةِ.

3-المنهجُ الصوفيُّ يربط الإنسانَ في كلِّ أحواله وأوقاتِه بالله سبحانه وتعالى، فلا تكون التَّربيةُ والتزكيةُ لتحصيل الخير في الحياة الدنيا فقطْ، وإنَّما المبدأُ والمنتهى هو الله سبحانه وتعالَى.

4-المنهجُ الصُّوفيُّ يُحوِّلُ التَّعبدَ لله والمناسكَ التَّعبديةَ بأشكالها وصُورِها إلى وسيلةٍ من وسائل التَّربية، فيجعلُ الصَّومَ والصَّلاةَ والجهادَ والزكاةَ والحجَّ وسيلةً من وسائل إصلاحِ النَّفس البشريَّة، فلا يفصل التعبُّدَ عن السُّلوكِ الإنسانيِّ، ويظهر ذلك جليًّا في كتبِ الإمام الغزاليِّ.

5-المنهجُ الصُّوفيُّ يحقِّقُ الاعتدالَ والتَّوازنَ والوسطيَّةَ في الأخلاقِ والأفعالِ والسُّلوكياتِ؛ فنجد الشَّخصَ الذي تربَّى على المنهجِ الصُّوفيِّ الصَّادقِ من أكثر النَّاس تعاونًا ورفقًا بالنَّاسِ وإخلاصًا في الأعمالِ والوظائفِ وانْسجامًا مع كافَّة أنواع المُجتمعاتِ على اختلافِ أنماطِها، ويجعلُه أيضًا من أكثر النَّاس التزامًا بعبادته وقُرباته مع ربِّه سبحانه، ولا يرى أيَّ تنافر بين الانسجامِ بين النَّاس والتَّعاون معهم وبين محافظتِه على أمورِ دينِه.

6-وُجودُ الشَّيخ المربِّي المرشدِ الهادِي، والذي اجتمعتْ فيه العلومُ الشرعيَّةُ والمناهجُ الرُّوحيَّةُ الرَّبانيَّةُ التي تحقِّقُ أعلى درجات التَّربية النفسيَّة والرُّوحية، فالشيخُ بالمفهوم العصريِّ هو الأبُ الرُّوحي الوارثُ لميراث النُّبوة من العلومِ والآدابِ الذي يَعلَمُ بحقيقةِ النَّفس البشريَّة وطُرقِ تقويمِها ووضعِها على الطَّريق السَّليم سُلُوكًا وعَمَلًا.

7-المنهج الصُّوفيُّ يحقِّقُ التَّكافلَ في المجتمع الواحدِ ويشيع بين أفرادِه الأُلفة والمحبَّة، وينشر قيم التَّعاون والإخاء والتَّكافل وسد الحاجاتِ، وذلك عن طريق غرسِ القيمِ الإسلامية الرُّوحية وتحويلِها إلى سلوكٍ عمليٍّ واقعيٍّ.

8-التَّربيةُ في المنهجِ الصُّوفيِّ تُصلحُ ظاهرَ الإنسانِ وباطنَه في الوقتِ نفسه، فتصنعُ بذلكَ الإنسانَ الكامل المُتزن الباطِنِ مع الظَّاهر، فلا تصنع قشورًا مِنَ الأخلاقِ الظاهريَّةِ مع خواء الباطن الإنسانيِّ منها، ولا تصنعُ بواطن كاملةً بدون التَّطبيق العمليِّ لها في الحياة اليوميَّةِ؛ بل تجمع بين الباطنِ والظَّاهر في تناغمٍ فريدٍ ينتج منه الشَّخصُ المسلمُ المنضبطُ المعتدلُ ذو النَّفس المطمئنةِ والسُّلوكِ النَّافعِ.

9-التَّربيةُ في المنهجِ الصُّوفيِّ لا تخضعُ لأهدافٍ أو أغراضٍ متنوِّعة سواءٌ أكانت سياسيةً أو اجتماعيَّةً تخدم أغراضًا محدَّدةً سلفًا، وإنما هدفُها الوصولُ بالعبد إلى مقام الإحسانِ والقرب من الله، وهو أن تعبد الله كأنَّك تراه فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك، فلا يستخدم التَّصوفَ كستارٍ أو وسيلةٍ لتحقيقِ أهدافٍ أخرى غير تحقيق مقامِ العبوديَّة لله.

10-المنهجُ الصُّوفيُّ يتميَّزُ بالرِّفقِ في معالجتِه لأمراض النَّفسِ والقلبِ ومراعاة الإحسانِ إلى الخَلْق كلِّهم، ورؤية نسبتهم إلى الله وأنَّهم من خَلْقِ الله، فوجب مراعاةُ الرِّفق بهم ومحاولةُ الإصلاح والتَّقويم بالموعظة الحسنة وضَرْبِ المثال الطَّيب وعدمِ التَّعالي على الخَلْق والانفصالِ عنهم؛ بل يغرسُ التَّصوفُ في النَّفسِ البشريَّةِ صفاتِ التَّواضع للخَلْق والمحبَّة لهم والشَّفقة عليهم اقْتداءً بسيِّد الخَلْق محمد ﷺ.

أصول المنهج الصُّوفي في تربية النُّفوس

يستمدُّ المنهجُ الصُّوفيُّ أصولَه وقواعدَه في التَّربية والإرشادِ ومعالجة أمراض النَّفس والقلب من كتابِ الله وسُنَّة رسوله ﷺ، وذلك من خلال مراعاة الجانب الرُّوحي في الإسلام، وانطلاقًا من تتبع تطبيق الرَّسولِ الكريم صلواتُ الله وسلامه عليه في حياتِه وأفعالِه وأقواله، فالنبيُّ ﷺ هو المثالُ الأسمى للنَّفس البشريَّةِ في أعلى درجاتِها قُربًا من الله سبحانه وتعالى وتحقيقًا للعبوديَّةِ، وكذلك تطبيقًا لشرائعِ الإسلام وأوامرِه، فجَمَعَ صلواتُ الله وسلامه عليه بَينَ أعلى درجاتِ سُموِّ الرُّوح وأعلى درجاتِ التَّعاملِ مع الخَلْق، فكان كما وَصفَه ربُّه سبحانه وتعالى في كتابهِ الكريمِ: <وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم> [القلم: 4].

فأصولُ المنهجِ الصُّوفيِّ في تزكيةِ النَّفسِ البشريَّةِ وتهذيبِها تتمثَّلُ في الاستعانةِ بنصوص الكتابِ والسُّنة ومحاولةِ تطبيق المثال المحمَّدي على النفوس البشريَّة من خلال تحقيق الصَّفاء القلبيِّ والرُّوحيِّ للإنسانِ، فهو ينطلقُ من الكتابِ والسُّنةِ على يد المشايخ المُربِّينَ ولا يخرجُ عنهما، وذلك ملموسٌ كما سيأتي بيانُه من خلالِ أقوال أهل التَّصوفِ فلا تخرجُ أقوالُهم وحِكَمُهم عن الكتابِ والسُّنةِ والتَّطبيقِ العمليِّ لها، فلننظرْ إلى أقوالِ علماءِ ومشايخِ التَّصوفِ في توضيحهم للأصولِ التي بُنيَ عليها التَّصوفُ:

-قال سيِّدُ الطائفةِ الأستاذُ الجُنيد: «عِلمُنا هذا مقيَّدٌ بالكتابِ والسُّنة، فمَنْ لم يقرأ القرآنَ ويكتبُ الحديثَ لا يصلحُ له أن يتكلَّمَ في علمنا»(1).وقال: «الطُّرقُ كلُّها مسدُودةٌ على الخَلْق إلا مَنِ اقتفى آثارَ رسولِ الله ﷺ»(2).

وقال الإمامُ أبُو القاسم عبدُالكَريم بن هوزان القُشيريُّ في رسالتِه: «الشَّريعة أمرٌ بالتزام العبوديَّة، والحقيقةُ مشاهدةُ الرُّبوبية، فكلُّ شريعةٍ غير مؤيدةٍ بالحقيقة فغيرُ مقبول، وكلُّ حقيقةٍ غيرِ مقيدة بالشَّريعة فغيرُ محصول، فالشَّريعةُ جاءتْ بتكليفِ الخَلْق، والحقيقةُ إنباءٌ عن تصريف الحقِّ، فالشَّريعةُ أن تعبدَه والحقيقةُ أن تشهدَه، والشَّريعةُ قيامٌ بما أمر والحقيقةُ شهودٌ لما قضى وقَدَّرَ وأخْفَى وأظْهرَ»(3).

وقد قيل في علاماتِ الصِّدقِ في السلوك«إنَّ سالكَ سبيلِ الله قليلٌ والمدَّعي فيه كثيرٌ ونحن نعرف لك علامتَيْنِ له:

الأولى:أنْ تكونَ جميعُ أفعالِه موزونةٌ بميزانِ الشَّرع، موقوفةٌ على توقيفاتِه إيرادًا وإصدارًا وإقدامًا وإحجامًا، إذ لا يُمكنُ سلوكُ هذه السبيل إلَّا بعدَ التلبُّس بمكارم الشَّريعة كلِّها.

والثَّانية:لا يَصلُ فيه إلا مَن واظبَ على جملةٍ من النَّوافل، فكيف يَصِلُ إليه من أهملَ الفرائضَ؟».

-فهذه هي أصولُ المنهجِ الصُّوفيِّ، وهي المبنيَّةُ على كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِ الله ﷺ، والتَّربيةُ الصوفيَّةُ ما هي إلا تطبيقٌ لرُوح وحقيقة الإسلام مُحافِظةً في ذلك على الحدود والأركان الشَّرعية، وهذا ما يدعونا إلى مَعرِفةِ أهداف التَّربيةِ الصوفيَّة بعد معرفةِ أصولِها.

1 انظر:فضل علم السلف على الخلف(ص34)تأليف:أبو الفرج عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي-المطبعة المحمودية.

2 انظر:مدارج السالكين(3/121)تأليف:محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية-دار الكتاب العربي-بيروت-الطبعة الثانية- 1393هـ.

3 الرسالة القشيرية(1/195)تحقيق:د.عبدالحليم محمود، ود.محمود بن الشريف-دار المعارف.