السنة الخامسة ربيع الأنور 1447 هـ - سبتمبر 2025 م


الشيخ. أشرف سعد الأزهري
ملامح المنهج الصوفي في التربية - (2)
الشيخ. أشرف سعد الأزهري

تعرضنا في مقالنا السابق إلى معالم المنهج الصوفي في التربية العامة والخاصة، ورأينا كيف ركز التصوف على إصلاح النفس البشرية، وإعدادها لتحقيق معاني العبودية لله عز وجل، ومن أهم أدوات ووسائل التصوف كذوق وعلم وشريعة وتجرِبة روحية (الشيخ المربي).

وتأتي أهمية وجود الشيخ العالِم والمربي في علم التصوُّف وفي حياة الصوفي أنَّه الدليلُ والهادي إلى طريق تزكيةِ النَّفْس وصلاحِ القلب ومعالجةِ أمراض القلوب، فهو يحبِّب الله إلى عباده، ويحبِّب العبادَ إلى الله، ولابدَّ لمن أرادَ سلوكَ سبيلِ التصوف مِن الرُّكون إلى شيخٍ من أهل التصوفِ الحقِّ وأهلِ العلم والصَّلاحِ الذين تلقَّوا علمَ الشريعةِ والحقيقةِ شيخًا عن شيخٍ في هذه المعالم مستمدة من الشَّريعة الإسلاميَّة وصحيحِ الممارسةِ العمليَّة والواقعِ؛ فأمَّا في الشَّريعة فإنَّ الله سبحانَه وتعالى يقولُ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] ، وفي حديثِ الرَّسولِ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قالَ: «ألَا سألوا إذْ لم يعلمُوا إنَّما شفاءُ العِيِّ السُّؤالُ» ([1])..

والواقعُ يشهدُ بأنَّ المرشدَ الهاديَ ضرورةٌ ملحةٌ في كلِّ الأمور صغيرِها وكبيرِها، فكيف بتربية النُّفوس وتزكيةِ القلوب؟! فكُلُّ العلومِ الشَّرعيَّةِ تؤخذُ عن أربابِها وأصحابِ التَّميزِ فيها، فكذلك عِلمُ القلوبِ والأنفسِ يُؤخذُ من أهلِه، وهم أهلُ السُّلوك إلى الله، فيقوم الشَّيخُ في المنهج الصُّوفيِّ بدور الطَّبيبِ المعالج لأمراضِ النَّفس والقلوبِ، وبعد ذلك وضع المنهج الوقائيِّ ضدَّ عَوْدَتِها مرَّةً أخرى، وغرس الأخلاق النَّبيلةِ في النَّفس الإنسانيَّةِ عن طريقِ المُجاهداتِ والذِّكرِ ومُدارسةِ سير الصَّالحين وأخبارِهِم.

ولذلك أرشد أئمة السلوك وشيوخ الطريق وعلماء الأمة إلى أهمية وجود الشيخ المربي؛ قال الإمامُ القُشيري في رسالتِه: مَن لم يكن له شَيخٌ لا يُفلِح أبدًا، قالَ أبو علي الدَّقاق: فالشَّجرة إذا نبَتَت من غير غارسٍ تُورِق ولكن لا تُثمِر([2]).

قال الإمامُ الغزاليُّ: يحتاجُ المريدُ إلى شيخٍ وأستاذٍ يقتدِي به لا محالةَ ليهديه إلى سواءِ السَّبيلِ، فإنَّ سبيلَ الدِّين غامِضٌ وسُبُل الشَّيطانِ كثيرةٌ ظاهرةٌ، فمَن لم يكُن له شيخٌ يهدِيه قادَه الشَّيطانُ إلى طُرُقهِ لا محالةَ، فمَن سلَك سُبلَ البوَادي المُهلِكة بغير خفيرٍ فقد خاطَر بنفسِه وأهلَكَها، ويكون المستقِلُّ بنفسِه كالشَّجرةِ التي تَنبُت بنفسِها، فإنَّها تجِفُّ على القُرب وإنْ بقيَت مدَّةً وأورَقَت لم تُثمرْ([3]).

قال الإمام أبو حامدٍ الغزالي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أراد بعبدٍ خيرًا بصَّرَه بعيوبِ نفسِه، فمَن كانت بصِيرتُه نافذةً لم تَخفَ عليه عيوبُه، فإذا عرَفَ العيوبَ أمكنَه العلاجُ، ولكنَّ أكثرَ الخَلق جاهلون بعيوبِ أنفسِهم، يرى أحدُهم القذَى في عين أخيهِ ولا يَرى الجِذعَ في عينِ نفسِه، فمَن أرادَ أن يعرفَ عيوبَ نفسِه فلَه أربعةُ طرُقٍ:

الأوَّل: أن يجلسَ بين يدَي شيخٍ بصيرٍ بعيوبِ النَّفس، مطَّلِعٍ على خَفايا الآفاتِ ويحكِّمُه في نفسِه ويتَّبعُ إشاراتِه في مجاهدتِه، وهذا شأنُ المريدِ مع شيخِه والتَّلميذِ مع أستاذِه فيُعرِّفه أستاذُه وشيخُه عيوبَ نفسِه ويُعرِّفه طريقَ علاجِه([4]).

ويقول الشَّيخ الإمام ابنُ عطاء الله السَّكندري: ويَنبغي لمَن عزَم على الاسترشادِ وسُلوكِ طريقِ الرَّشاد أن يَبحثَ عن شَيخ مِن أهلِ التَّحقيقِ سالكٍ للطَّريق، تاركٍ لِهواه راسخِ القَدمِ في خدمةِ مَولاه، فإذا وجدَه فليَمتثِل ما أمَر وليَنتهِي عمَّا نهَى عنه وزَجَر([5]).

قال الشَّيخ أحمدُ زرُّوق رحمَه اللهُ في قواعدِ التَّصوُّف: أَخْذُ العِلْمِ والعملِ عن المشَايخِ أتمُّ مِن أَخْذِهِ مِن دونـهِم ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: 49] وقالَ تعالى ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان: 15] فلَزِمَتِ المشيخةُ وخاصَّةً أنَّ الصَّحابةَ أخذُوا عنه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقد أخذَ هو عن جبريلَ واتَّبع إشارتَه في أن يكونَ عَبدًا نبيًّا، وأخَذَ التَّابعون عن الصَّحابةِ فكانَ لكلٍّ أتباعٌ يختصُّون بهِ، كابن سِيرين وابن المسيِّبِ والأعرجِ لأبي هريرة، وطاوُس ووهَب ومجاهِد لابن عبَّاس إلى غيرِ ذلك، فأمَّا العِلْمُ والعملُ فأَخذُه جليٌّ فيما ذكروا كما ذكروا، وأمَّا الإفادةُ بالهمَّةِ والحالِ فقد أشارَ إليها أنسٌ بقوله: ما نَفضْنا التُّرابَ عن أيدِينا مِن دفنِه عليه الصَّلاة والسَّلام حتَّى أَنكَرنا قلوبَنا([6])، فأبَانَ أنَّ رؤيةَ شَخصِه الكَريمِ كانت نافعةً لهم في قلوبِـهم، فمَن تحقَّقَ بحالةٍ لم يخلُ حاضرُوه منها فلذلك أمرَ بصُحبةِ الصَّالحِين ونهَى عن صُحبةِ الفَاسقِين([7]).

.... وللحديث بقية إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم وبارك على إمام الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله .


([1])جزءٌ من حديثٍ أخرجَه أبو داود في كتابِ الطَّهارةِ، باب في المجروح يتيمَّم (337)، والدارميُّ في سننِه (779) من طريق الأوزاعيِّ أنه بلغه عن عطاءٍ. وأخرجَه ابنُ ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب في المجروح تصيبُه الجنابة فيخاف على نفسه إن اغتسلَ (572)، وأبو يعلَى في مسنده (2420) من طريق الأوزاعيِّ عن عطاء، وأخرجه عبدُالرَّزاق في مصنَّفِه (867) من طريق الأوزاعيِّ عن رجلٍ عن عطاء كلهم أنَّه سَمِعَ عبدالله بن عباس به مَرفوعًا.

([2])الرسالة القشيرية (ص 426) للشَّيخ أبي القاسم عبدالكريم القشيري- دار الكتب العلميَّة- بيروت- 2004م.

([3])إحياء علوم الدِّين (3/73) لحجة الإسلام الغزالي- مكتبة ومطبعة كرياطة فواترا سمارغ- أندونيسيا.

([4]) إحياء علوم الدين (3/62).

([5]) مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح (ص 33) ابن عطاء الله السكَندري- دار الكتب العلميَّة- بيروت- لبنان.

([6]) جزءٌ من حديث أخرجَه التِّرمذي في كتاب المناقِب، باب في فضل النبي ﷺ (3618) وابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ﷺ (1631) وأحمد في مسنده (3/221) وابن أبي شيبة في مصنفه (35900) من طريق جعفر بن سليمان الضبعي قال: حدثنا ثابت عن أنس  به.وقال الترمذي: «حديث غريب صحيح».

([7]) قواعدُ التَّصوُّف (ص94) للشَّيخ أحمد زرُّوق- تحقيق: محمود بيروتي- دار البيروتي- الطبعة الأولى- دمشق- 2004.