
من معالم الاصطفاء الإلهي للجناب النبوي
الشيخ. محمد يحي عبد النعيمأخرج مسلمٌ في صحيحه عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال : «إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم»، ومما لا شك فيه أن نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم- هو صفوة الصفوة من الخليقة، اصطفاه الله تعالى على العالمين، واختاره من بين خلقه وجعله إمام المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين.
ولم يكن هذا الاصطفاء مختصًا بجانبٍ دونَ جانبٍ، كأن يكون في جانب النسب وحده، أو الخُلُقِ الكريم وحده ..إلخ، ولكنه اصطفاء تام شامل لكل ما يتعلق بجنابه صلي الله عليه وآله وسلم، ولأن جوانب هذا الاصطفاء متعددة فإننا سنلقي الضوء على بعض معالمه :
1- احتفاء الحق سبحانه بحبيبه وأخذ العهد والميثاق له، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ النَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِى قَالُوٓا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ﴾.
وتدل هذه الآية الكريمة على أن الله تعالى أخذ العهد والميثاق لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من النبيين عليهم السلام، وقد اختلف في المراد من الآية، فقيل: إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يبعث الله تعالى نبيًا -آدم فمن بعده - إلا أَخذَ عليهِ العهد في محمدٍ صلى الله عليه وسلم لئن بُعثَ وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية .
وقيل : إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل، والمعنى: وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم وإلى هذا ذهب ابن عباس.
وقيل : المرادُ أمم النبيين على حذف المضاف ، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه؛ وقيل : المضاف المحذوف أولاد، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم، وأَخْذُ الميثاقِ من النبيين له صلى الله عليه وسلم، مع علمه سبحانه بأن كونهم لا يدركون وقته لا يمنع من ذلك؛ لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب.
واختلفوا أيضا في حصول أخذ العهد أكان في كتبهم أم في عالم الذر؟ على قولين عند أهل العلم.
والذى رجحه الألوسي هو الأول ، قال رحمه الله تعالى : وتعظم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر، فإنه بعيد كبعدِ ذلكَ الزمان، كما عليه البعض ويؤيد القول بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا.... ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى الله عليه وسلم.
أقول:
ومن هنا قال بعض العارفين بأن نبوته- صلى الله عليه وآله وسلم- مستمد النبوات فما من نبي ولا رسول منهم إلا كان يبعث بجزئيات وكليات من شريعته العامة، فنبوته صلي الله عليه وآله وسلم أصل ورسالته صلى الله عليه وآله وسلم هي الرسالة الجامعة، ولذلك أُرسل إلى سائر الأنبياء وهذا معنى إرساله صلوات الله عليه وعلى آله «إلى الناس كافة»
قال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى: «صرح السبكي في تأليف له بأنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأنبياء، آدم فمن بعده وأنه صلى الله عليه وسلم نبي عليهم ورسول إلى جميعهم، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم «كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد» وقوله صلى الله عليه وسلم «بعثت إلى الناس كافة». قال: ولهذا أخذ الله المواثيق له على الأنبياء كما قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري، قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).
قلت: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال لم يبعث نبي قط من لدن نوح إلا أخذ الله ميثاقه ليؤمنن بمحمد صلي الله عليه وآله وسلم ...
قال السبكي : عرفنا بالخبر الصحيح حصول الكمال من قبلِ خَلقِ آدمَ لنبينا صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه، وأنه أعطاه النبوة من ذلك الوقت، ثم أخذ له المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم وأنه نبيهم ورسولهم وفي أخذ المواثيق وهي في معنى الاستخلاف ولذلك دخلت لام القسم في لتؤمنن به ولتنصرنه... وهي كأنها أيمان البيعة التي تؤخذ للخلفاء ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا. فانظر هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه. فإذا عرفت ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الأنبياء ولهذا ظهر ذلك في الآخرة، فجميع الأنبياء تحت لوائه وفي الدنيا، وكذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل له، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخرَ ذلكَ لأمرٍ راجعٍ إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافه بما يقتضيه، وفرقٌ بينَ توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فها هنا لا توقف من جهة الفاعل ولا من جهة ذات النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه فلو وجد في عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك.
ولهذا يأتي عيسى في آخر الزمان على شريعته ويتعلق بما فيها من أمر ونهي، كما يتعلق بسائر الأمة وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء.
وكذلك لو بعث النبي- صلى الله عليه وسلم- في زمانه أو في زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم وكانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم, والنبي- صلى الله عليه وسلم- نبي عليهم ورسول إلى جميعهم, فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم وتتفق مع شرائعهم في الأصول لأنها لا تختلف وتقدم شريعته فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع, إما على سبيل التخصيص, وإما على سبيل النسخ, أو لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبي- صلى الله عليه وسلم- في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة الشريفة, والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات». انتهى كلام السبكي.
قال الحافظ السيوطى : وهذا التقرير الذي قرره السبكي قد أشار إليه الشرف البوصيري وقد مات قبل مولد السبكي بقوله في البردة:
وكل آيٍ أتى الرسل الكرام بها * فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها * يظهرن أنوارها للناس في الظلم.
يتبع