
امرأةٌ بِحقّ
خديجة أحمد تيسيرلطالما كتب المؤلفون عن المرأة وحاولوا وصفها ومدحها والثناء على دورها في المجتمع خيراً، وهم على وصفهم وثنائهم ما يزالون بعيدين عن الحقيقة فكيف لقطرةٍ خرجت من البحر الواسع أن تنجح في وصف ذلك البحر وتوضيح حقيقته وهي قطرة؟ ولئن أجادت أقلامهم في الثناء على المرأة فهي عندما تصل إلى الحديث عن الأم تجفّ وتنضب وتعلن عجزها على الملأ حتى إننا تعلمنا من التاريخ أن كل عظيم عرفناه فإنّ خلفه أمّ سواء ذُكرت أم لا ففي ذكر مَن ربّت ذكرٌ لها على أي حال.
فمن لا يعرف اليوم الإمام مالك بن أنس؟ إمام المذهب المالكي الذي حُفظ وانتشر أتباعه شرقًا وغربًا، ذلك الإمام الذي كاد في طفولته أن يحترف الغناء ويتخذه سبيله وصنعته! ولكن الأم العاقلة الحكيمة السيدة عالية بنت شريك الأزدية راقبت ولاحظت، فأسرعت بأداء دورها في التربية والإرشاد والتعليم، أدَّت دورًا جوهريًا في حياة الإمام فنصحته ووجهته ونفّرته من مسلك الغناء واللهو وغرست فيه الرغبة في الالتحاق بالعلم والعلماء حتى إنها كانت تلبسه أحسن الثياب وتعمّمه وترسله إلى حضور مجالس العلماء. وفي ذلك يقول الإمام مالك: "فألبستني ثيابا مشمرة، ووضعت الطويلة على رأسي – أي القلنسوة الطويلة – وعممتني فوقها، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن" ولم تكتف بذلك بل كانت قد بلغت من الوعي والحكمة ما جعلها تنتقي له من علماء عصره وتوجهه أن يقصده وتقول له : " يا بني، ائت مجلس ربيعة، فتعلم من سمته وأدبه قبل أن تتعلم من حديثه وفقهه"، وسرعان ما تعلق قلب الطفل مالك بالعلم وطلبه حتى أصبح الإمام مالك الذي تشدّ إليه الرحال من كل بقاع الأرض.
مَن منّا لا يعرف الإمام الشافعي؟ محمد بن إدريس الإمام البحر صاحب المذهب الشافعي الذي عاشت أقواله وكتبه وأبحاثه حتى يومنا هذا وكأنه فينا ما زال يكتبها وينشرها بين الناس! عندما بلغ الإمام الشافعي الرابعة عشرة من عمره وكان قد أتم حفظ القرآن الكريم وأتقن اللغة العربية أيما إتقان وتوسع في طلب العلم حتى حفظ موطأ الإمام مالك، فقصده ليطلب العلم عليه وبعد حوار أجراه معه الإمام مالك ذو الفراسة رأى فيه علامات النبوغ والتميّز فقال له : "يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن"، ولكنني أدرك تماما أن هناك مَن رأى ما رآه الإمام مالك في الشافعي ولكن قبله بسنوات عدة، فلم يكن هذا النبوغ والتميز ليظهر فجأة مرة واحدة بل لابدّ أن تسبقه علامات وإشارات لا يلحظها أحد كالأم! نعم تلك السيدة فاطمة بنت عبد الله الأزدية التي تزوجت السيد إدريس بن العباس المطّلبي وأنجبت منه محمدًا، فما لبث أن توفي عنها زوجها وهم في مدينة غزّة، فارتحلت مع طفلها إلى مكة حيث أصله وأقاربه وأهله، وبدأت تلاحظ على طفلها الذي ينطق عباراته الأولى علامات الذكاء والنبوغ ففرحت بذلك فرحا شديدًا واستبشرت به خيرًا ودعت ربها أن يجعله ذخرًا لها وللأمة معها. يقول الإمام الشافعي: "كنت يتيمًا في حِجْرِ أمي فدفعَتني إلى الكُتّاب ولم يكن عندها تُعْطِي المعلمَ، وكان المعلمُ قد رضى مني أن أَخلُفَهُ إذا قام". أرسلته أمه ليخطو خطواته الأولى في طريقه المضيء وهم في حال لا يملكون فيه أن يدفعوا إلى المعلم، وقد اكتفى معلمه حينئذ بأن يستفيد من محمد الصغير بأن يكون مشرفًا على الأطفال في غياب معلمهم، ويقول إمامنا أيضا: "لم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى العظم فآخذه فأكتب فيه"، تدفعه إلى العلم وتحضه على حضور مجالس العلماء وهي عاجزة عن شراء الأوراق له ليكتب عليها، ولكنّ الطفل الذكي كان يجد له وسيلة للكتابة ويحتال على الأمور المادية لينال تلك المكانة السامية الراقية التي لا تشترى بكنوز الأرض. السيدة عالية والسيدة فاطمة كل واحدة منهما كانت تؤمن أن لابنها هذا شأنًا، أخذت بيده ووضعته في بداية الطريق رغم كل المصاعب ورغم كل المعوقات ولم تلتفت، فإن السعي كان لغاية عظيمة، فيها خيرَا الدنيا والآخرة، فكانتا من سعداء الدارين وكانتا "أستاذ الأساتذة" بحق كما وصف شاعر النيل حافظ إبراهيم الأم في شعره:
الأم أستاذ الأساتذة الألى ... شغلَت مآثرهم مدى الآفاق
اللهم ارضَ عن أئمتنا الكرام مالك والشافعي وعن السيدتين الفاضلتين عالية وفاطمة واجزهما عن الأمة الإسلامية خير الجزاء.