السنة الخامسة ربيع الأنور 1447 هـ - سبتمبر 2025 م


د. عمر محمد الشريف
مشيخة الصوفية بمصر تاريخ وجذور
د. عمر محمد الشريف

يظن بعض الناس أن مشيخة الطرق الصوفية بمصر حديثة الإنشاء، والحقيقة أن المشيخة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ الإسلامي، فهي قديمة المولد والنشأة، ثم تطورت حتى صارت بالتنظيمات الإدارية الحالية.

يمكننا القول أن أول تنظيم إداري للصوفية بمصر يعود للعصر الأيوبي، إلا أنه لا يمكن إغفال تاريخ مشايخ التصوف في مصر قبل ذاك العصر، فمنهم من انتهت إليه مشيخة الصوفية بمصر في العصر الإخشيدي مثل الشيخ محمد بن أحمد بن القاسم، أبي علي الروذباري (ت322هـ) أصله بغدادي، كان من أبناء الرؤساء، وله تصانيف حسان في التصوّف، صحب الجنيد والنوريّ وابن الجلّاد، سكن مصر وصار شيخ الصوفية ورئيسهم بها إلى أن مات بها، كما هو ثابت في كتب التاريخ والتراجم، وقبره بالقرافة عند ذي النون المصري[1].

ومنهم في العصر الفاطمي: أبو الحسين الغزي المقرئ الصوفي (ت448هـ)، وهو محمد بن الحسين بن عليّ بن محمد بن هارون بن الترجمان، ذكر الصفدي في "الوافي بالوفيات"، والمقريزي في "المقفى الكبير" أنه شيخ الصوفية بديار مصر في وقته، سمع بمصر وبدمشق وبغيرهما، روى عنه القاضي القضاعي، وخرّج له أبو محمد عبد العزيز بن محمد الخشني فوائد وأحاديث صحاح، توفّي بمصر، ودفن بالقرافة عند ذي النون، وعمره 95 سنة.[2]

أما أول تنظيم إداري للصوفية بمصر والذي يعود للعصر الأيوبي، فمن المعروف أن الناصر صلاح الدين الأيوبي قام بمحاربة المذهب الشيعي عن طريق نشر التصوف السني فأنشأ أول بيت للصوفية في مصر "خانقاه سعيد السعداء" سنة 569هـ، وجعل شيخها شيخ الشيوخ، وكان يعد كبير شيوخ الصوفية في مصر. وقد تحولت تلك الخانقاه إلى دار إقامة مخصصة لاستقبال الصوفية الوافدين من مختلف البلاد، وتم تجهيزها بكافة المستلزمات المطلوبة للتفرغ للعبادة، وأوقف عليها الكثير من الأوقاف.

واقترنت هذه الوظيفة فيما بعد بأولاد شيخ الشيوخ بن حمويه، وفي مقدمتهم العلامة، المفتي، شيخ الشيوخ بالديار المصرية ودمشق صَدْرُ الدين أبو الحسن محمد ابن أبي الفتح عُمر بن عَلِيّ ابن العَارِفِ محمد بنِ حَمُّوَيْه الجُوَيْنِي الشافعي الصوفي. وُلد بجُوَين، ولي القضاء بحران، ثم تولى التدريس بمصر بمدرسة الإمام الشافعي، وبالمشهد الحسيني. وتولى مشيخة الشيوخ بالديار المصرية ودمشق في دولة الملك العادل أبي بكر بن أيوب، ومن بعده في دولة ابنه الملك الكامل، والذي أرسله رسولًا إلى الخليفة الناصر لدين الله يستنجد به على الفرنج لما أخذوا دمياط، فأدركه الموت بالموصل سنة 617هـ، عن 73 سنة. ودفن بتربة الشيخ قضيب البان. ثم تولى هذه الوظيفة أولاده من بعده.

كما ذكر الحافظ جلال الدين السيوطي في "حسن المحاضرة": "ولي مشيختها الأكابر، وحيث أطلق في كتب الطبقات في ترجمة أحد أنه ولي مشيخة الشيوخ، فالمراد مشيختها، ولشيخها شيخ الشيوخ؛ هذا هو المراد عند الإطلاق.

وقد وليها صدر الدين محمد بن حمويه الجويني، ثم ولده كمال الدين أحمد، ثم ولده معين الدين حسن أخو كمال الدين، ثم وليها كريم الدين عبد الكريم بن الحسين الآملي، ثم وليها قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز، ثم وليها الشيخ صابر الدين حسن البخاري، ثم وليها شمس الدين محمد بن أبي بكر الأيلي، ثم وليها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ثم وليها الآملي، ثم وليها العلامة علاء الدين القونوي، ثم وليها مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي، ثم وليها شمس الدين محمد بن إبراهيم النقشواني، ثم وليها كمال الدين أبو الحسن الجواري، ثم سراج الدين عمر الصدي إلى أن مات سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ثم وليها الشيخ بدر الدين حسن ابن العلامة علاء الدين القونوي إلى أن مات سنة ست وسبعين وسبعمائة، ثم جلال الدين جار الله الحنفي إلى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ثم وليها علاء الدين أحمد بن السرائي، ثم الشيخ برهان الدين الأنباسي، ثم شمس الدين محمد بن محمود بن عبد الله ابن أخي جار الله، ثم أعيد البرهان الأنباسي، ثم شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري، ثم أعيد محمد بن أخي جار الله، ثم وليها شمس الدين محمد بن علي البلالي مدة متطاولة إلى أن مات سنة عشرين وثمانمائة، ثم وليها شمس الدين البيري أخو جمال الدين الأستادار، ثم وليها الشيخ شهاب الدين بن المحموه، ثم جمال الدين يوسف بن أحمد التزمنتي المعروف بابن المجبر، ثم أعيد ابن المحموه، ثم القاياتي، ثم الشيخ خالد، ثم تقي الدين القلقشندي، ثم السراج العبادي، ثم الكوراني، ثم السنتاوي".انتهى.[3]

وفي آخر أيام الدولة الأيوبية وصل إلى مصر قاضي قضاة الحنابلة شيخ الإسلام شمس الدين أبي بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن شرف الدين علي بن سرور المقدسي الحنبلي، وتولى وظيفة شيخ الشيوخ بها، حيث ولي مشيخة خانقاة سعيد السعداء وتدريس المدرسة الصالحية، توفي سنة 676هـ.[4]

كما نلاحظ أن أهم العصور التي اهتمت بالتنظيمات الإدارية للطرق الصوفية في مصر هو العصر المملوكي، حيث انتظمت فيه الصوفية في جماعات مرتبة داخل الخانقاوات التي أنشئت بكثرة في ذاك الوقت.

نجد في سنة 706هـ ظهور اسم الشيخ كريم الدين الآمليّ شيخ الصوفيّة بمصر في واقعة استتابة الشيخ ابن تيميّة.[5] والذي ذكر الحافظ جلال الدين السيوطي أنه تولى مشيخة خانقاه سعيد السعداء.

وكان لقب شيخ الشيوخ لا يطلق إلا على شيخ خانقاه سعيد السعداء حتى سنة 723هـ عندما قام السلطان الناصر محمد بن قلاوون ببناء خانقاه سرياقوس، وجعل فيها مائة خلوة لمائة صوفيّ، وبنى بجانبها مسجداً تقام به الجمعة، وبنى بها حماماً ومطبخاً. ويذكر المؤرخ تقي الدين المقريزي أنه أكمل بناءها سنة  725هـ، وخرج إليها بنفسه ومعه الأمراء والقضاة ومشايخ الخوانق، وقرّر السلطان في مشيخة الخانقاه الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي، ولقّبه بشيخ الشيوخ، فصار يقال له ذلك ولكلّ من ولي بعده، وكان قبل ذلك لا يلقب بشيخ الشيوخ إلّا شيخ خانقاه سعيد السعداء، وأحضرت التشاريف السلطانية فخلع السلطان على الشيخ علاء الدين القونويّ شيخ خانقاه سعيد السعداء، وعلى الشيخ قوام الدين أبي محمد عبد المجيد بن أسعد بن محمد الشيرازيّ، شيخ الصوفية بالجامع الجديد الناصريّ، خارج مدينة مصر، وعلى جماعة كثيرة.

وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف، وفرّق بها ستين ألف درهم فضة وعاد إلى قلعة الجبل، فرغب الناس في السكنى حول هذه الخانقاه، وبنوا الدور والحوانيت، حتى صارت بلدة كبيرة تعرف بخانقاه سرياقوس.[6]

 كما يذكر الحافظ السيوطي أن دعي شيخ خانقاه سرياقوس بشيخ الشيوخ، واستمر ذلك إلى أن كانت الحوادث، والمحن منذ سنة 806هـ، وضاعت الأحوال، وتلاشت الرتب، حيث تلقب كل شيخ خانقاه بشيخ الشيوخ.[7]

ويذكر المقريزي في أحداث سنة 822هـ أن السلطان المملوكي المؤيد شيخ المحمودي أجلس قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي على سجادة مشيخة الصوفية.[8]

وينقل لنا الحافظ السخاوي أسماء عديد المشايخ الذين تولوا مشيخة الصوفية في مساجد وخانقاوات مختلفة، فيذكر أن ممن تولى مشيخة خانقاه سعيد السعداء في العصر المملوكي الشيخ محمد بن علي بن جعفر الشمس العجلوني ثم القاهري الشافعي الصوفي ويعرف بالبلالي (ت820هـ)، دام بهَا نَحْو 30 سنة[9]. وخالد بن أيوب بن خالد الزين المنوفي ثم القاهري الأزهري الشافعي (ت870هـ) تولى مشيخة سعيد السعداء. [10]

عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن عرفات بن عوض، الزين بن الشهَاب ابن السراج الْأنْصَارِيّ الأطفيجي القمني ثم القاهري الشَّافِعِي (ت860هـ) ولي مشيخة الصوفِية بتربة يُونُس الدوادار المجاورة لتربة الظاهر برقوق.[11]

داود بن سليمان بن حسن بن عبيد الله أبي زيادة أبو الجود بن أبي الربيع البنبي ثم القاهري المالكي البرهاني، ويعرف بأبي الجود (ت 863هـ)، ولي مشيخة الصوفية بمسجد علم دار بدرب ابن سنقر بالقرب من باب البرقية بالقاهرة.[12]

أحمد بن إِبراهيم بن علي بن أحمد بن مُحَمَّد الشهاب بن البرهان الأبناسي الصحراوي الشَّافِعِي (ت889هـ)، ولي مشيخة الصوفية بتربة الْأَشْرَف إينال.[13]

عبد الْغَنِي بن مُحَمَّد بن أحمد بن عُثْمَان بن نعيم بن مقدم بن مُحَمَّد الزين أَبُو مُحَمَّد بن الشَّمْس الْبِسَاطِيّ الأَصْل القاهري الْمَالِكِي (ت897هـ)، استقر فِي مشيخة الصُّوفِيَّة بالتربة الناصرية فرج بن الظَّاهِر.[14]

تطورت بعد ذلك التنظيمات الإدارية للطرق الصوفية في العصور التالية حتى أصبحت كما هي عليه الآن، ونجد في سنة 1903م أن صدرت لائحة تنظيمية خاصة بالطرق الصوفية، وشكلت اللائحة مجلسًا صوفياً ينتخب لمدة ثلاث سنوات. وقد صدرت هذه اللائحة في عهد السيد محمد توفيق البكري الذي كان شيخًا للمشايخ ونقيبًا للسادة الأشراف. وفي سبتمبر سنة 1976م في عهد الرئيس السادات صدر القانون رقم 118 بشأن تنظيم الطريق الصوفية وجعل المجلس الأعلى للطرق الصوفية ويشكل من شيخ مشايخ الطرق رئيساً، وعشرة من مشايخ الطرق منتخبين، ومن ممثل لكل من الأزهر، ووزارة الأوقاف، والداخلية، والثقافة، وأمانة الحكم المحلي. 


[1] محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن خالد بن سالم النيسابوري، أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، المحقق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، ١٤١٩هـ ١٩٩٨م، ص270. شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، (15/239). ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، (3/247).

[2] صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي، الوافي بالوفيات، المحقق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث – بيروت، 1420هـ- 2000م، (3/10). تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، المقفى الكبير، المحقق: محمد اليعلاوي، دار الغرب الاسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، ١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م، (5/317).

[3] عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه – مصر، الطبعة: الأولى ١٣٨٧هـ - ١٩٦٧م (2/260).

[4] إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبو إسحاق، برهان الدين، المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، (2/334). مجير الدين العليمي عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن المقدسي الحنبلي، التاريخ المعتبر في أنباء من غبر، الناشر: دار النوادر، سوريا، الطبعة: الأولى، ١٤٣١ هـ - ٢٠١١ م (3/275). عبد الحي بن أحمد بن محمد ابن العماد العَكري الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، ١٤٠٦هـ - ١٩٨٦م، (7/517).

[5] علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي الإشبيلي الدمشقي، تاريخ البرزالي، المحقق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: المکتبة العصرية - بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، ١٤٢٧هـ - ٢٠٠٦ م، (3/379). تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، المقفى الكبير، المحقق: محمد اليعلاوي، دار الغرب الاسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، ١٤٢٧هـ - ٢٠٠٦م، (1/281).

[6] تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، ١٤١٨هـ، (4/294).

[7] عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه – مصر، الطبعة: الأولى ١٣٨٧هـ - ١٩٦٧م، (2/260).

[8] تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، المحقق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت، الطبعة: الأولى، ١٤١٨هـ - ١٩٩٧م (6/509).

[9] شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، الناشر: منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت، (8/178).

[10] المصدر السابق، (3/171).

[11] المصدر السابق، (4/55).

[12] المصدر السابق، (3/221).

[13] المصدر السابق، (1/196).

[14] المصدر السابق، (4/255).