
مظاهر الخلافة المحمدية في الأكوان
د. يسري رشدي جبرالحمد لله رب العالمين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدَنا مُحَمَّدٍ، الْبَرْزَخِ بَيْنَ الْأَحَدِيَّةِ وَالْوَاحِدِيَّةِ، وَبَيْنَ الْبُطُونِ وَالظُّهُورِ، سِرِّ التَّجَلِّي الأَعْظَمِ، أحمدُ الْبِدَايَةِ وَالْبِشَارَةِ، مُحَمَّدُ النِّهَايَةِ وَالْهِدَايَةِ، مَحْمُودُ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ، مُصْطَفَى الْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَعَلَى آله وَسَلِّمْ، عَدَدَ كَمَالِكَ وَكَمَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ.
أما بعد:
فموضوع الخلافة المحمدية في الأكوان غاب عن كثير من المسلمين بالرغم من وضوحه في القرآن الكريم، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خليفة الله في الأكوان وسيدنا آدم عليه السلام خليفة الله في الأرض، وهناك فرق كبير بين الخلافة الكونية والخلافة الأرضية.
فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان نبيًّا قبل خلق آدم عليه السلام، وقبل خلق الملائكة وقبل خلق الأكوان؛ لأنه أول روح خلقها الله عز وجل والتي تمثلت من النور وهو المخلوق الأول.
وخلق الله تعالى هذا النور ليظهر به مكنون علمه، لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني»[1].
وقال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[2] أي الله عز وجل منور السماوات والأرض، ومُظهرهُا، مثلُ نوره الذي أظهر به السماوات والأرض وهو النور المحمدي الذي خلقه. (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)، وهو المُنَور في ذاته، وفي قراءة (درىء) وهو المنير لغيره. فنوره الذي خلقه ونسبه إليه تشريفًا هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو نور الشريعة ونور الحقيقة يهدي الله لنوره من يشاء.
وهذا النور المعظم تمثلت منه الروحانية المحمدية، وجعلها الله عز وجل واسطة الوسائط، بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[3] وهذه الآية هي سر التخصيص والتفضيل للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن. فمقامه عالي عند مولاه ولا يشاركه فيه مخلوق، وهو صلى الله عليه وسلم رسول من ليس كمثله شيء فكان صلى الله عليه وسلم ليس كمثله مخلوق.
والنبي صلى الله عليه وسلم أول المخلوقات خلقًا وآخرهم بعثًا، وهو القائل: «جعلني فاتحاً وخاتماً»[4]، وقال الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾[5] والإشارة في قوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «َأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[6]، ويقول صلى الله عليه وسلم «جعلني فاتحِاً وخاتِماً»، ويقول: « أنا أول النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِى وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّى وَلاَ فَخْر»[7]. فإذا جمعنا بين قول الله عز وجل وقول النبي صلى الله عليه وسلم سيتبين لنا أنه صلى الله عليه وسلم أول الخلق في الأكوان. فكانت الإعادة صورة للبداية. فلما كان صلى الله عليه وسلم الأول في الإعادة دل على أنه كان الأول في البداية: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾.وكل ذلك من حيث الحقيقة، الروحانية لا من حيث الصورة البشرية.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع»[8]. فله أولية في الخلق وفي البعث وفي الشفاعة وفي دخول الجنة.
والنبي صلى الله عليه وسلم أول مجيب لنداء ربنا يوم ألست بربكم، فهو أول من قال بلى، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾[9]، لذلك كان هو صلى الله عليه وسلم أول المسلمين، بدليل قوله تعالى: ﴿لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[10] وقوله تعالى في آية أخرى ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾[11]. فهو الأول حقيقة من حيث الروحانية ومن حيث البدء. ولم يقل أنا من المسلمين إلا في سورة النمل حيث قال عز وجل: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[12] لأنه ارتبط بالبلدة، فكان الكلام على لسان الشخص المحمدي لا الروحانية المحمدية فقال من المسلمين.
وهناك دليل آخر على أوليته صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾لأنه الرحمة الممدة للعوالم كلِّها، فلا بد أن يسبق العوالم، وبهذه الرحمة ظهرت العوالم.
فدل على أنه الخليفة في جميع العوالم؛ لأنه مرآة لمرادات الله عز وجل ومجلى الكمالات الإلهية الأعظم. والمجلى هو المظهر، والمظهر مخلوق والظاهر قديم.
وهو صلى الله عليه وسلم التجلي الأعظم المتمثل بالرحمة، ورحمة الله سبقت غضبه، فظهرت الأكوان من العدم بالرحمة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو البرزخ بين الأحدية والواحدية؛ لأن الواحدية قابلة للتجلي والنسبة، والأحدية لا تقبل النسبة.
والروحانية المحمدية سارية في سائر الأسماء والصفات ليظهر الله بها الخلق. فما من حي إلا ويستمد شعاع من هذه الروحانية، فهو الممد لذلك يقول صلى الله عليه وسلم «من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين، إنما أنا قاسم والله يعطي»[13]. في جميع الأزمان بدلالة قوله (قاسم) بصيغة اسم الفاعل، حيث لم يجعلها مرتبطة بزمان، أي قاسم في الماضي والحاضر والاستقبال. وقال (والله يعطي) بصيغة المضارع لتجدد العطاء واستمراره من الله تعالى.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يمد جميع الأكوان، حتى العرش والكرسي واللوح والجنة والنار فما خط القلم في اللوح المحفوظ إلا بمدد هذه الروحانية، وما خلقت الجنة والنار والعرش والكرسي إلا بمدد هذه الروحانية المحمدية. وهذا ما وضحه القرآن الكريم في قوله تعالى:﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾[14] أي وجدك عائلا تعول الأكوان لكونك رحمة للعالمين فأغناك لتمد الأكوان، وهناك معنى أخر لكلمة (وجدك) أي بمعنى أوجدك، وجعلك على هيئة صالحة لتمد سائر الأكوان بما يصلحها وما يهديها.
وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم أول الخلق فهو أول الأنبياء، لقوله: «كنت نبياً وآدم منجدل في طينته»[15] وفي رواية «كُنْتُ نَبِياً وآدم بينَ الرُوحِ والجَسَد»[16]. وهذه النبوة مرتبطة بروحه قبل ظهور بشريته، وهناك آية كريمة تشير إلى أنَّ النبوة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم في حال روحانيته قبل حال بشريته في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾[17]، أي بغير واسطة، والعلم اللدني هو الذي يكون من الله بغير واسطة، والألف واللام في كلمة القرآن للجنس أي تلقيت القرآن كله حال روحانيتك قبل خلق الخلق.
ولما بُعث الشخص المحمدي البشري نزل عليه سيدنا جبريل عليه السلام بالقرآن، لكونه بشراً فيحتاج للواسطة، وليذكره بما انطبع في روحانيته لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾[18]، لذلك لمَّا جاءه قال له: اقرأ، ومعلوم أن من يقول لك اقرأ ولا يحمل كتابا أي اقرأ مما تحفظ، فقال له: ما أقرأ؟ أو ما أنا بقارئ، فغطَّه إليه غطًّا شديدًا، ليظهر روحانيته على بشريته، وتضمحل البشرية؛ لأن سيدنا جبريل عليه السلام روح فغطَّه كي تقوى الروحانية المحمدية وتظهر على البشرية فيتذكر ما طُبع في روحانيته، فقرأ القرآن بلسان عربي مبين، كما في قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾[19]. وطبيعة الإنسان النسيان كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾[20]، فلما جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في صورة الإنسان واحتاج لمن يذكره أرسل ربنا سبحانه وتعالى إليه جبريل عليه السلام ليقوم بهذه المهمة.
وهناك دليل آخر على أن الإنسان ينسى، فكلنا لا نتذكر يوم ألست بربكم، مع العلم أننا قلنا بلى، ولكن لا نذكر هذا في حال دُنيانا على صورة الإنسان.
وبعد أن اعتاد النبي صلى الله عليه وسلم نزول الوحي، وقويت الروحانية، وتذكر ما طُبع فيها من كلام الله القديم، صار يسابق جبريل، وهذا ما بينه الله عز وجل في القرآن حين قال: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾[21] وكأن الله تعالى غار أن تظهر هذه الحقيقة المحمدية وما حوت أمام الناس، فأمره أن يسترها ولا يسابق جبريل بالوحي؛ لأن كل حسناء لا بد لها من نقاب، والنبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن تختبئ حقيقته في نقاب بشريته، وقال له في سورة أخرى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾[22].
والنبي صلى الله عليه وسلم هو واسطة البلاغ، ودل على ذلك في الشهادتين (محمد رسول الله) فكلمة رسول أي واسطة بين الله تعالى وبين خلقه.
ونلخص ما ذكرنا أنفًا في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾[23] فقوله (الرحمن) أي رحمته سبقت غضبه، فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، وقوله (عَلَّمَ القرآن) للروحانية المحمدية قبل خلق الإنسان، لذلك قال له في آية أخرى ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾.
ثم لمَّا صار نبيًّا عربيًّا بلغه بلسان عربي مبين، فالقرآن نزل مرتين، مرة إجمالًا حال روحانيته، وأخرى منجمًا حال بشريته، تيسيرًا على المسلمين في حفظه وتطبيقه، وتثبيتًا لقلبه صلى الله عليه وسلم﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾[24].
وهذه الرحمة المحمدية تجلت لمَّا خلق الله تعالى العرش وكتب عليه (لا إله إلا الله)، فاهتز العرش من شدة الجلال، فكتب عليه (محمدٌ رسولُ الله) فثبت من شدة الجمال، وهذه الروحانية المحمدية هي التي تتلقى صعقات الجلال من الله تعالى وتقسمها على الخلق بالرحمة والجمال والهداية والإرشاد.
وهو صلى الله عليه وسلم الخليفة في الدنيا، فقد ملكه الله تعالى الدنيا وخزائنها، لذلك قال: «وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرض أَوْ مَفَاتِيحَ الأرض وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِى وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا»[25] ويقول سيدنا أبو هريرة رضى الله عنه فأنتم تنتشلونها من يديه، فخزائن الأرض في يديه؛ لأنه يعول أهل الأرض من يده.
ومن مظاهر خلافته صلى الله عليه وسلم في الدنيا أن له التصريف في التشريع.
ومن أمثلة التصريف في التشريع أنه صلى الله عليه وسلم عُرض عليه أن يكون السواك شرطاً من شروط صحة الصلاة لكنَّه صلى الله عليه وسلم حَوَّله إلى سنة رحمة بأمته لذلك قال: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى أَوْ عَلَى النَّاسِ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ»[26].
وأيضا عندما سأله الصحابة عن الحج أفي كل عام يا رسول الله؟ قال «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ»[27].
ومن أمثلة تصريفه صلى الله عليه وسلم في التشريع، أنه أباح لسيدنا علي بن أبي طالب رضى الله عنه المكوث في المسجد وهو جنب. ومعلوم أن الجنب يحرم عليه المكوث في المسجد، إلا أنه صلى الله عليه وسلم أباح هذا الأمر لسيدنا علي رضى الله عنه كما ورد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ يَا عَلِيُّ لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُجْنِبَ في هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرَكَ»[28]. وهناك أمثلة أخرى كثيرة في السنة وفي كتب الفقه تدل على تصريفه صلى الله عليه وسلم في التشريع كتحليله لبيع السلم، وبيع العرايا وغيرها كثير. فمن يريد الاستزادة فعليه بكتب السنة والفقه.
ومن مظاهر التصريف في الدنيا أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم أشار للقمر فانشق كما في حديث الترمذي «عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آيَةً فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ فَنَزَلَتِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قَوْلِهِ سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ»[29].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الشمس فحبست له كما جاء في الحديث الشريف الذي يرويه جَابِرٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الشَّمْسَ فَتَأَخَّرَتْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ»[30]، وقد ردها النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي رضي الله عنه حتى صلى العصر[31].
ومن الأمثلة على تصريفه في الدنيا، أنه دعا الشجرة فلبت النداء وانقادت لأمره، كما ورد في الحديث الذي يرويه مسلم عن جابر من حديث طويل أنه قال «فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِى حَاجَتَهُ فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ عز وجل إلى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ انْقَادِي عَلَىَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِى يُصَانِعُ قَائِدَهُ حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ انْقَادِي عَلَىَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا لأَمَ بَيْنَهُمَا يَعْنِى جَمَعَهُمَا فَقَالَ الْتَئِمَا عَلَىَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْتَأَمَتَا قَالَ جَابِرٌ فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُرْبِى فَيَبْتَعِدَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ فَيَتَبَعَّدَ فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِى فَحَانَتْ مِنِّى لَفْتَةٌ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلاً وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ»[32].
ومن أقوى الأدلة على الخلافة في الدنيا أن الله سبحانه يخلق على لسان حبيبه صلى الله عليه وسلم إذا ما قصد شيئًا وأراده، كما جاء في الحديث الشريف «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بِطَعَامٍ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ فَقَالَ نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ فَنُووِلَ ذِرَاعًا فَأَكَلَهَا قَالَ يَحْيَى لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ هَكَذَا ثُمَّ قَالَ نَاوِلْني الذِّرَاعَ فَنُووِلَ ذِرَاعًا فَأَكَلَهَا ثُمَّ قَالَ نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُمَا ذِرَاعَانِ فَقَالَ وَأَبِيكَ لَوْ سَكَتَّ مَا زِلْتُ أُنَاوَلُ مِنْهَا ذِرَاعًا مَا دَعَوْتُ بِهِ»[33]، وهذا دليل على أن الصحابي لو لم يتكلم لخلق الله سبحانه وتعالى الذراع تلو الذراع ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يطلب ذلك. والأدلة على تصريفه صلى الله عليه وسلم في الدنيا كثيرة جدًّا في كتب السنة والسيرة لمن أراد الاستزادة.
وهو صلى الله عليه وسلم الخليفة في البرزخ، وخزائن عالم البرزخ في روحانيته وفي يده؛ لأن عالم البرزخ يحتاج للمدد، والموت لا يطرأ إلا على الجسد، والروح باقية وتحتاج إلى الإمداد، وهو الإنسان الوحيد الذي يُسأل عنه في سؤال القبر، ماذا تقول في هذا الرجل؛ لأنه الخليفة في عالم البرزخ وهو عالم القبور قبل البعث والنشور.
والخلافة المحمدية تتجلى أيضا يوم القيامة، حين يُبعث الخلائق للحساب فيذهبون إلى أبينا آدم عليه السلام ثم إلى أبينا نوح عليه السلام ثم إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام ثم إلى سيدنا موسى عليه السلام ثم سيدنا عيسى عليه السلام وكل منهم يقول: نفسي نفسي لست لها لست لها، فيدلهم سيدنا عيسى عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها أنا لها، فهو الخليفة بحق. ولا يبدأ الحساب إلا به صلى الله عليه وسلم وهو القائل «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِى وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّى وَلاَ فَخْرَ»[34].
وهو صلى الله عليه وسلم الخليفة في الجنة، بل هو الذي ملكه الله تعالى الجنة لذلك يقول: "مفتاح الجنة في يدي لا تفتح إلا بي ولي" ومن ملك المفتاح ملك التصرف والعطاء لذلك قال (مَنْ يَضْمَنْ لِى مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»[35]، والضمان فرع الملك، ولا ضمان فيما لا تملك، وما دام صرح صلى الله عليه وسلم بضمانه للجنة لمن يتصف بهذه الصفات فهذا دليل على أن الله تعالى ملكه الجنة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ»[36] وكلمة زعيم بمعنى ضامن، والتصرف والضمان لا يكون إلا من المالك فتراه يتصرف في الجنة فلا تفتح إلا به. وما دام يملك الجنة إذن هو صلى الله عليه وسلم الخليفة في الجنة.
ومما مضى تبين لنا بصورة واضحة جلية أنه صلى الله عليه وسلم الخليفة بحق في الأكوان.
[1] العجلوني في كشف الخفاء (2016).
[2] النور: 38
[3] الأنبياء: 107
[4] البيهقي في شعب الايمان (4837)، البزار في مسنده (9518) بلفظ (وجعلتك فاتحا وخاتما)، وعبد الرزاق في مصنفه (10163).
[5] الأنبياء: 104.
[6] البخاري (2412)، الترمذي (3148).
[7] الترمذي (3996)، والدارمي (50)، وأحمد (398).
[8] أبو داود (4673) والترمذي (3148) وابن ماجة (4308) واحمد (10972).
[9] الأعراف: 172.
[10] الا نعام: 163.
[11] الزمر: 12.
[12] النمل: 91.
[13] سبق تخريجه.
[14] الضحى: 8.
[15] اخرجه الإمام الترمذي (3609) عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قالوا يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال: وادم بين الروح والجسد)، واخرجه الإمام احمد (20596)، والطبراني في الكبير، وابن أبي شيبة (36553).
[16] الإمام احمد (20596) عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الخير قال قلت يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد) والطبراني في الكبير (20/834) وابن أبي شيبة (36553) وايضاً عبد الله بن شقيق بلفظ (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) والترمذي (3609) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد).
[17] النمل: 6
[18] الشورى: 51.
[19] الشعراء: 193-195.
[20] طه: 115.
[21] القيامة:16-18.
[22] طه: 114.
[23] الرحمن: 1-4.
[24] الفرقان: 32.
[25] البخاري (1357) ومسلم (1196)، والنسائي (3100)، وابن ماجة (224).
[26] البخاري (895)، ومسلم (612)، وأبو داود (47)، والترمذي (22)، والنسائي (7)، وابن ماجة (302).
[27] مسلم (3321) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أيها النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ ذَرُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ. والنسائي (2631)، وابن ماجة (2996).
[28] الترمذي (4093).
[29] الترمذي (3597).
[30] الطبراني في المعجم الأوسط (4039).
[31] قال العجلوني في كشف الخفاء (1379): (رد الشمس على علي رضي الله عنه) قال الإمام أحمد لا أصل له وتبعه ابن الجوزي فأورده في الموضوعات، ولكن صححه الطحاوي وصاحب الشفاء، وأخرجه ابن مندة وابن شاهين عن أسماء بنت عميس، وابن مردويه عن أبي هريرة، وروى الطبراني في الكبير والأوسط بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار.
[32] مسلم (7705).
[33] أحمد (5184).
[34] الترمذي (3610).
[35] البخاري 6562.
[36] أبو داوود (4802).