السنة الأولى جمادى الآخرة 1443 هـ - يناير 2022 م


الشيخ. أشرف سعد الأزهري
قبس من منهج المجدد الإمام عبد الله بن الصديق الغماري في فهم وتفسير القرآن الكريم
الشيخ. أشرف سعد الأزهري

يعد الإمام أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغماري الحسني، أحد أكابر العلماء المجتهدين المحققين في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجريين، فهو المحدث حافظ العصر، ناصرالسنة ورافع لواء الحديث، محدث الديار المغربية، الأصولي الفقيه، النحوي، المدقق، السالك الناسك بقية السلف الصالح، وتظهر مصنفاته العالية وأبحاثه العلمية الشرعية العميقة عظيم صفاته العلمية وملكاته الذهنية والعقلية، وبصيرته النافذة، وتشهد بتبحره في العلوم، وما فتح عليه فيها من المعاني النفيسة، وشوارد الفوائد، والمباحث الدقيقة في سائر فروع العلم التي لم يسبق إليها.

 ومن أهم المباحث التي أتى فيها بالمعاني الجليلة، ودقائق الخطاب، ما يتعلق بالقرآن الكريم وعلومه، وقواعد وأصول وضوابط تفسيره، وما يتعلق بقضية نسخ التلاوة، وكذا بيان المعاني الصحيحة الخفية لآيات من القرآن الكريم، ونفي المعاني الباطلة عن كتاب الله الكريم، فمن ذلك:

مباحثه وتعليقاته وكلامه رضي الله عنه في بيان رد بدع التفاسير القديمة والمعاصرة التي خالفت الأصول العامة والقواعد الصحيحة والضوابط اللازمة لتفسير كلام الله تعالى، ونسبت المعاني الباطلة لكتاب الله عز وجل، وذلك في كتابه القيم الماتع (بدع التفاسير) الذي لم يسبق إليه، والذي يجب استصحاب ما حوى من المعاني والضوابط والقواعد حين التعرض لتفسير القرآن الكريم، أو القراءة في كتب التفسير.

فقد وضع الإمام الغماري خارطة شرعية عقلية جامعة، بها معالم ضابطة لتفسير كتاب الله تتلخص في:

1-كيفية التعامل مع ألفاظ الكتاب الكريم:

- ألفاظ القرآن في الأحكام والقصص وما يتعلق بحقائق الإيمان يمتنع حملها على المجاز، وتحمل على حقيقتها الشرعية كالإيمان والإسلام والصلاة والصيام والزكاة والحج، فإن لم يكن لها حقيقة شرعية حملت على الحقيقة اللغوية كالنكاح والظهار والقروء في العدة، ويمنع دخول المجاز في هذا النوع؛ لأنه ينافي الغرض من التشريع ويؤدي إلى تعطل الشريعة.- الآيات التي تتحدث عن الأمم السابقة وأحوالها تحمل على حقيقتها ويمتنع فيها المجاز.

-  ألفاظ يمتنع حملها على الحقيقة وهي آيات وألفاظ الصفات؛ نحو: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾،﴿بل يداه مبسوطتان﴾،﴿فإنك بأعيننا﴾، فالحقيقة هنا ممتنعة ومذهب العلماء في ذلك هو تفويض المعنى، أو التأويل بمعان مجازية معروفة في لغة العرب، والحذر من مسلك المجسمة تجاه مثل هذه الآيات[1].

2- شروط يجب أن تتوافر في المفسر ورعايتها والتقيد بها:

   ـ  التجرد من الآراء المذهبية وعدم حمل معاني القرآن عليها.

   ـ توطين نفسه على تقبل ما تفيده الآية وتدل عليه.

   ـ وعدم التمحل في تأويل الآيات وطلب وجوه الإعراب البعيدة أو حملها على المعاني التي لا تتفق مع سياقها.

  ـ مراعاة سبب النزول، عدم مخالفة  ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير آية.

  ـ مراعاة تفسير الآيات بما هو معروف من لغة العرب وقت نزول القرآن، فيجب عليه مراعاة قواعد اللغة العربية وأساليبها المعهودة لدى العرب وقت النزول وعدم التفسير بمعاني حادثة  مستجدة بعد زمن  تنزل القرآن.

 ـ تجنب تفسير القرآن باللغات الغريبة، أو تخريج إعرابه على الوجوه الشاذة أو الضعيفة بحسب القواعد النحوية؛ والذي يورث التنافر وضعف التركيب؛ لأن ذلك ينافي فصاحة القرآن والتي هي خلوص كلماته من التنافر والغرابة والتعقيد[2].

3- مراعاة الضوابط الكلية، مثل: وجوب مراعاة النسق والسياق في الآيات عند التعرض لتفسيرها، فليس كل استدلال بآية على تفسير أخرى مما يصح، ورد كل ما يتعارض مع سياق الآية، وتفسير الآيات بما يناسب مقام النبوة، وأن كل معنى يتعارض مع صريح القرآن وصحيح السنة فهو باطل، ومراعاة كون الخاص الذي يراد به الخاص لا ينبغي حمله على العموم، وأن القراءات يفسر بعضها بعضا[3].

 وقد رد الإمام الغماري من خلال هذه القواعد والضوابط على الكثير من تفاسير المعتزلة الباطلة وأمثالهم في القديم والحديث فمن ذلك:

- التحذير من تغيير معنى الآية والعدول عن ظاهرها لتتمشى مع مذهب المفسر وعقيدته؛ عندما رد على الزمخشري قوله في تفسير قوله تعالى ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ في سورة الكهف، فقال-أي الزمخشري-:  وفيه وجه ثالث وهو أن يكون إن شاء الله في معنى كلمة تأبيد، أي كأنه قيل: ولا تقولنه أبدًا.

فيقول الغماري رحمه الله: هذا من بدع التفاسير، لأنه صرف للآية عن ظاهرها، ولأن جعل المشيئة لتأبيد النهي مبني على مذهبه الاعتزالي في أن مشيئة الله لا تتعلق بجميع أفعال المكلفين بل ببعضها[4].

- الانتباه إلى أن المجاز لا يدخل فيما يحكيه القرآن عن الأمم السابقة، ومن خلاله رد على المرتضى من الإمامية عندما فسر قوله تعالى:﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾[البقرة: 54]، فقال: أن معناه اجتهدوا في التوبة مما أقدمتم عليه، والندم على ما فات وإدخال المشاق الشديدة عليكم، حتى تكادوا أن تقتلوا أنفسكم.

فقال الغماري ـ رحمه الله ـ: إن هذا من بدع التفاسير؛ لأن المجاز لا يدخل فيما حكاه القرآن عن الأمم السابقة، وفصل في ذلك تفصيلًا بديعًا[5].

 ومن المباحث التي أبدع فيها الإمام عبد الله بن الصديق الغماري فيما يتعلق بالقرآن الكريم وعلومه، ما يتعلق بمبحث نسخ التلاوة في القرآن الكريم؛ حيث ترجح لديه نفي وجود نسخ تلاوة آية من القرآن الكريم أو أكثر، أي نسخ لفظها ورفعه بعد أن كانت من القرآن الكريم، وقد فصل هذا الأمر في كتابه القيم (ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة)، من خلال الرد على أقوال العلماء المثبتين لنسخ التلاوة، وبنى ذلك على أدلة شرعية وعقلية ونظر وجيه معتبر، من هذه الأدلة:

ـ نقد الآثار التي وردت في هذا الأمر، وبيان أنها أخبار آحاد منكرة بها الكثير من العلل التي تقدح في ثبوتها وتفنيدها من الناحية الحديثية والأصولية[6].

ـ بيان أن تلك الجمل التي قيل أنها كانت من القرآن ونسخت هي جمل لا رابط يربطها بآيات القرآن، بل هي جمل مقتطعة لا يدرى أين كان محلها من المصحف الشريف[7]

- إشارته رحمه الله إلى قضاء العقل باستحالة نسخ التلاوة لأنه يستلزم القول بالبداء في حق الله تعالى، وهو ظهور المصلحة في حذف الآية بعد خفائها وذلك محال في حق الله تعالى[8].

ـ تنبيه الشيخ رحمه الله أن ما جاء في الروايات أنه من القرآن الذي نسخ لا نجد فيه طلاوة القرآن ولا أسلوبه ولا جرس لفظه[9]، بل هو مخالف لأسلوب القرآن ونظمه ونسقه، فضلا عن أنها لم تثبت بالتواتر فهي شاذة، فلا تكون قرآنًا[10].

ـ إشارته اللطيفة إلى أن السنة النبوية وقع فيها نسخ المعنى (الحكم) دون نسخ اللفظ؛ فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع عن لفظ من ألفاظ حديثه أو بدله بغيره أو قال للصحابة عن حديث ما لا تحفظوه فقد نسخت لفظه أو رجعت عنه فلا تبلغوه عني، فلم يثبت مثل ذلك أصلًا، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز أن ينسب إلى الله تعالى رجوعه عن لفظ آية أو نسخ تلاوته[11].

ـ رده على ما قيل في معاني آيات من القرآن أنها تعني نسخ التلاوة؛ فقال عن معنى قوله تعالى ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾[البقرة:106].﴿مَانَنْسَخْ﴾ من حكم﴿مِنْ آيَةٍ﴾فنبدله بغيره ﴿أَوْنُنْسِهَا﴾ أو نتركها فلا نغير حكمها، وكذلك قراءة: ننسأها، معناها: نؤخرها فلا نغير حكمها، والمؤخر متروك ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍمِنْهَا﴾ للمكلف إن كان خفيفا فخيريته بسهولته، وإن كان شديدا فخيريته بكثرة ثوابه، فالنسخ والترك لحكم الآية، وأسند في الظاهر إلى الآية، لأنها أصله وهو مدلولها، وهذا نوع من الإيجاز المعروف في القرآن، ونظيره قول الله تعالى: ﴿وَاسْأَل ِالْقَرْيَةَ﴾ [يوسف:82]، أي أهلها[12].

 بالإضافة إلى ما سبق تمتع الإمام عبد الله بن الصديق الغماري بالغوص في بحار معاني القرآن الكريم، فوقف على كثير من المعاني والاستنباطات وحَلَّ الإشكالات، وربما كان بعضها مما لم يسبق إليه، وهذا مبثوث في معظم مؤلفاته ومن أمثلة ذلك:

- بيان الفرق بين: اسطاعوا، واستطاعوا في قوله تعالى فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف:97]، والحكمة في ذلك، يقول الشيخ رحمه الله: أن الحكمة –مما يظهر لي والله أعلم- أن الظهور على السد لا يحتاج إلا إلى محاولة بالأيدي والأرجل، أو وضع ما يرقى عليه كالسُّلم، فلذلك عبر فيه باسطاعوا، ولكن نقبه يحتاج فيه إلى معدات النقب، كالفؤوس والمعاول، فعبر فيه باستطاعوا، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، كما تقرر في  علوم العربية[13].

ـ وفي بيان ورود الاستفهام بمعنى الأمر يقول الشيخ: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ﴾ [آل عمران: 20] أي أسلموا. ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91] أي انتهوا. ولهذا قال عمر رضي الله عنه عند نزولها: انتهينا يا رب. وورود الظن بمعنى العلم ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يعلمون ﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة:46].  ونحو ﴿فَظَنُّوا﴾ وعلموا   ﴿أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾[الكهف:53] [14].

- ذكر الشيخ رحمه الله دقيقة من معاني قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:93]. فقال: سألت عنه مولانا الوالد رضي الله عنه، فقلت: هذه الآية تفيد أن القاتل مخلد في النار، فكيف يجاب عنها، لتتفق مع الأدلة على أن عصاة المؤمنين لا يخلدون في النار؟

قال: الجواب في الآية نفسها، قلت: كيف ذلك؟ قال في قوله تعالى: ﴿فَجَزَاؤُهُ﴾ أي أن هذا جزاؤه ولكن الله تعالى تفضل فلم يعقابه بهذا الجزاء، وهذا كما يقول الرجل لولده إذ خالفه جزاؤك أن أضربك مائة سوط، ثم يسامحه أو يضربه عشرة أسواط[15].

- التنبيه إلى الآيات الجامعة لمعاني دين الإسلام، ويذكر الإمام الغماري لها مثالًا فيقول:  قال الله تعالى يخاطب موسى عليه السلام: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ وهذا تصريح بوجود الله وتوحيده، وفيه إشارة إلى العقائد العقلية، أي التي أثبتها العقل، وإن كان النقل أثبتها أيضا، فالاعتماد فيها على العقل ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾وهذا تصريح بالأعمال الفرعية، وخصت الصلاة منها بالذكر لأهميتها ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ [طه13-15] وهذا تصريح بالعقائد النقلية، أي التي أثبتها النقل، وحكم العقل بجوازها، بل بوجوبها لإيجاب النقل الصادق لها فهذه الآية جمعت جملة الدين كما ترى[16].

رحم الله الإمام الغماري، وجزاه خيرًا عما قدمه للإسلام والمسلمين... والحمد لله أولًا وآخرًا.


[1] انظر: بدع التفاسير (ص9-10) لأبي الفضل عبدالله بن محمد الصديق الغماري الحسني الإدريسي- دار الرشاد الحديثة- الدار البيضاء- المغرب- الطبعة الثانية- 1406هـ1986م.

[2] انظر: بدع التفاسير (ص10: 13).

[3] انظر: بدع التفاسير (ص20: 30).

[4] انظر: بدع التفاسير (ص 81).

[5] انظر: بدع التفاسير (ص17).

[6] انظر: ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة (9: 15) لأبي الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري – مكتبة القاهرة- القاهرة- الطبعة الرابعة 1434هـ-2013 م.

[7] انظر: ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة (ص15).

[8] انظر: ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة (ص13)

[9] انظر: ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة (ص13).

[10] انظر: ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة (ص16)

[11] انظر: ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة (ص16).

[12] انظر: ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة(ص19).

[13] انظر: موسوعة العلامة المحدث المتفنن سيدي عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني (ج13- خواطر دينية 1/57) مركز البحوث والدراسات بكلية الصفا الإسلامية (ماليزيا) دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة- الطبعة الثانية 1438هـ.

[14] انظر: موسوعة العلامة المحدث المتفنن سيدي عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني (ج13- خواطر دينية 1/93).

[15] انظر: موسوعة العلامة المحدث المتفنن سيدي عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني (ج13- خواطر دينية 1/128).

[16] انظر: موسوعة العلامة المحدث المتفنن سيدي عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني (ج13- خواطر دينية 1/203).