
قواطعُ الطريق عنِ الوصولِ للحقِّ سبحانه وتعالى
د. يسري رشدي جبربسم الله الهادي إلى الصراط المستقيم، والحمد لله الَّذي أنارَ لعبادهِ مَعالم الطريق المُوصل لمرضاتهِ والوصول إلى معرفته والأنس بوصله وقربه والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم خير منْ دلَّ العباد وهداهم لقطع ظلمات النفوس ومحو أمراض القلوب التي تمنعهم من الوصول لمعارج القرب ومعرفة علام الغيوب، أنصحُ الخلق للخلق والدَّال على الحقِّ في سكناته وحركاته وصمته وكلامه وهديه وهدايته وجهاده واجتهاده، أما بعد:
فإن ما يقطع الإنسان عن الوصول لمولاه الذي خلقه وسواه وهداه واجتباه يمكن إجماله في ثلاثة أسباب:
1- نفسانية شهوانية.
2- أهواء لتحقيق رغبات.
3- ثالثها شيطانية بتزيين المعاصي وإشعال الشهوات لتحقيق الملذات التي يعقبها الندم والحسرات.
ونبدأ بأوّلها وهى النفس وما غرس فيها من شهوات؛ لتحصيل اللذة العاجلة بأي وسيلة وبكل حيلة، ولذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَوٰتِ مِنَ النِّساءِ وَالبَنينَ وَالقَنٰطيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعٰمِ وَالحَرثِ ذٰلِكَ مَتٰعُ الحَيوٰةِ الدُّنيا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسنُ المَـٔابِ﴾ [آل عمران:14].
وهذه الشهوات إنْ لم تحصل على مُقتضى الوحي الشريف وسنة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، تُهلك صاحبها وتميت فيه كل وازع للخير وللهداية، فشهوة البطن لا بدَّ وأن تكون بأكل الحلال بالرزق الحلال والبعد عن الشبهات، ثم إذا أكلت فلا تشبع ولا تأكل إلا إذا جعت، ولا تأكل ما تشتهي كلما اشتهيت، بل اقنع بالموجود المتيسر من الطعام والشراب ولا تطلب المفقود ، فالحبيب صلى الله عليه وآله وسلم أكل الخبز بالخل، وقال: «نعم الإدام الخل»؛ لأنه كان هو الموجود ولم يتكلف أن يطلب المفقود بذبح شاه أو جمل وكان يملك ذلك وقادر عليه، فالرضا بالموجود مع عدم طلب المفقود يَفطِم النَّفس عن إشباعها من المباح المحبوب لديها، لأنك لو أشبعتها من المباح تقوى فتطالبك بعد ذلك بالمكروه والمحرم وكذا في الملبس والمنكح والمسكن، تقنع بالمتاح المباح دون إسراف أو استشراف لزيادة عن الحاجة، فخير الرزق ما كان فيه الكفاية دون الزيادة، وكذا البعد عن الرغبة في جمع حطام الدنيا والتنافس فيها المفضي للخصومة والحسد والتباغض المُشغل عن الإقبال على الله تعالى بقلب فيه سكينة وخشوع، والإقلال من الكلام إلا فيما يعنيك كما قال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» فكثرة الكلام تفضي إلى كثرة الخطأ والحاجة للاعتذار.
وقد تؤدي إلى الكذب والغيبة والنميمة وكلها قواطع ومهالك تهوي بصاحبها في سخط الله، مع الإقلال من التعارف على النَّاس إلا بقدر الحاجة والضرورة؛ لأن الانشغال بالناس والاستئناس بهم من علامة الإفلاس، كما قال سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه.
ومعلوم أن من عيوب النفس حب الظهور والشهرة لطلب المدح والتعالي على الناس بنعم الله عليك، وعلاج ذلك بالتواضع للخلق و التغافل عن عيوبهم والتماس العذر لهم مع النصح وحب الخير لهم، وتجنب أذيتهم وأذاهم، كما أن النفس بطبيعتها كسولة، ويعين على الكسل كثرة الطعام والشراب والنوم، فليعتدل في ذلك كله حتى يهم ويهب لعبادة الله وقضاء ما طلبه منه تجاه الخلق والحق.
وعليه أيضا أن لا يؤجل ما طُلب منه وتسويف ذلك بتذكر الموت الذي قد يأتي فجأة، وقد تتغير النية أو تأتي مشاغل من المستقبل تحول بينك وبين فعل ما أجلته، ولذلك لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد. وبادر بالصلاة في أول وقتها، وكذا كل ما طلب منك، وقاوم الملل الذي يُعد أيضاً من قواطع الطريق.
داوم على العمل بمخالفة النفس ومجاهدتها، فإن أحب الأعمال عند الله أدومها وإن قلّ، وما يُعينك على المداومة أن لا تكلف نفسك فوق طاقتها بل كما قال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم: «فليعبد ربكم أحدكم نشاطه»، وقوله: «اكفلوا من الأعمال ما تطيقون فإن أحب الأعمال عند الله أدومها وإن قَل».
وكذا يجب عليك إن وقعت معصية ألا تكررها كثيراً لأن ذلك يجعلك تعتادها، واعتيادها يؤدي إلى إدمانها مما يصعب عليك الإقلاع عنها، ولذلك بقول سبحانه وتعالى: «إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذينَ يَعمَلونَ السّوءَ بِجَهٰلَةٍ ثُمَّ يَتوبونَ مِن قَريبٍ فَأُولٰئِكَ يَتوبُ اللَّهُ عَلَيهِم وَكانَ اللَّهُ عَليمًا حَكيمًا» [النساء:17] ويعين على ذلك كله: الخوف من الجليل والرضا بالقليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل، كما أوصى بذلك سيدنا على رضي الله عنه وكرم الله وجهه لتحقيق تقوى الله.
أما القاطع الثاني، فهو الهوى، وفيه تميل إليه النفس لتحصيل شهوة خفية فتلتمس من أجله الأعذار وتضل عن رؤية الحق، فالهوى حجاب للعقل عن رؤية الحق وهذا يوقع في ضلال مبين. ولا يُتجنَّبُ الهوى إلا بمعرفة ما خَفِي في النَّفس مِنَ التلبيس والتسويغ، الذي يزينه الهوى لتحقيق مصالح النفس العاجلة، فترى الباطل حقًا وتلتبس عليها المفاهيم وتشتبه عليها الطرق، قال الله تعالى مُحذراً من ذلك: ﴿ أَفَرَءَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوىٰهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلىٰ عِلمٍ وَخَتَمَ عَلىٰ سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلىٰ بَصَرِهِ غِشٰوَةً فَمَن يَهديهِ مِن بَعدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرونَ﴾ [الجاثية:23]، والهوى ميدان النفس لتحقيق شهواتها الخفية بطرق ملتوية، فيطوع الحق على رغبته فيزيغ عنه بالكلية كما قال تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ﴾[ص:26].وللتخلص من رعونات النفس ومضلات الهوى لابد من صحبة شيخ مربي وارث محمدي يأخذ بيدك من ظلمات نفسك إلى أنوار هداية ربك.
وأما القاطع الثالث والأخير فهو أضعفها، ألا وهو الشيطان: ﴿إِنَّ كَيدَ الشَّيطٰنِ كانَ ضَعيفًا﴾ [النساء:76]؛ لأنه ليس له علينا سلطان بل غاية ما يفعله أن يسول للنفس هواها ويزين لها المعصية لتحصيل اللذة العاجلة وعلاجة بالذكر والمراقبة وصحبة أهل الصلاح كما قال سبحانه وتعالى ﴿وَاتَّبِع سَبيلَ مَن أَنابَ إِلَىَّ﴾ [لقمان:15] وقول الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»، وسلاح الشيطان ومدخله في قلب الإنسان يقوى بالغفلة والفراغ، ولذا داوم الذكر واشغل فَراغك بالطَّاعة والقيام بالواجبات والسنن والأوراد والعبادات ولا تجعل لك أي فراغ يُسّول لك فيه الشيطان الوقوع في المعاصي فيقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿فَإِذا فَرَغتَ فَانصَب﴾ [الشرح:7] ، ومما يعينك على التغلب على هذه العقبات التعلق والتخلق بالحبيب الأعظم أُسوة المُؤمِنين وإمام المتقين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ بمطالعة سيرته وشمائله وقراءة أخباره وسننه وأيامه مع كثرة الصلاة عليه، وتحصيل العلم الشرعي الذي تُصلح به عبادتك مع مراعاة الآداب ومحاسن الأخلاق وبر الوالدين وصلة الأرحام، والنصح للمسلمين وإتقان ما أقامك الله فيه، مع التسامح والتعاون على البر والتقوى وكظم الغيظ وعدم إنفاذ الغضب وإزالة كل شبهه في قلبك تجاه ربك ونبيك وشرعه القويم، والبعد عن سوء الظن بالمسلمين أو تتبع عوراتهم وأن تكف يدك ولسانك عن أموالهم وأبدانهم وأعراضهم والله الموفق.