
رمضان شهر المحبة والوصال
أسامة محسنالحمد لله الذي جعل في أيام الدهر نفحات، ومزيدًا من العطايا والتجلِّيات، وفضلُ الله أوسعُ من أنْ يحدَّ بزمانٍ، لكنْ خَصَّ الله _سبحانه وتعالى_ بعض الأزمنة على بعض، كما خصَّ بعض الأيام على بعض، وشرَّف بعض الليالي دون بعض، فسبحان من خصَّ شهرَ رمضانَ بعطاءٍ ميَّزه به على باقي الشهور، وجعله قبلة الإقبال عليه، والوفود إليه، وشهرًا للمزيد الذي لا ينتهي لديه، ويسَّر فيه كل طريقٍ يوصِّل إليه، وصفَّد الشياطين فيه حتى لا يعوقك شيءٌ في المسير إليه، فنادى منادي الوصال: ألا منْ أراد الرحيم الرحمن والعفوّ المنَّان فإنَّه قد فتح بابًا خاصًّا للوصال في ذلك الأوان اسمه الرضوان يدخل منه الصائمون ولا يدخل منه غيرهم، وشهر رمضان يُعدُّ أيضًا شهر المعرفة بالمحبوب لما فيه من التجلِّيات التي هي أوصافه من الكرم والعفو والرحمة والمغفرة التي يتجلَّى الله بها على عباده.
فالنَّاظر بعين التدقيق في هذا الشهر الكريم، وما يحدث فيه من العطاء والكرم من المولى الكريم والربِّ الرحيم، وما يعلنه فيه العبد من صدقِ القصدِ لله_ جلَّ جلاله_ وفي التفنن في التقرُّب إليه بصور الطاعات القلبية والبدنية؛ يجد هذا الشهر هو شهرُ المحبَّة والوصال محبة الله لعبده التي تبدو جليَّة واضحة في هذه العطايا والمنح الإلهيَّة المتكاثرة وتيسيره لأحبائه أسباب القرب والتوفيق للطاعات بمحض الفضل، وذلك العبد الذي يترك شهواته ومحبوباته من الطعام والشراب لأجل مولاه، ويصبر ذلك العبد على الامتناع عن هذه المحبوبات ليس يومًا أو يومين وإنَّما شهرًا كاملًا؛ ليعلن أمام العالمين محبته الخالصة لرب العالمين، التي فيها يحلو للعبد المحب ويعذب عنده ذلك العذاب وهذا البعد عن المحبوبات الذي ينقلب إلى قرب للمحبوب الأعظم وانشغال به.
ولله در من قال:
عـــــذابي فيــــك عـــــــــــذب وبعــــــدي فيـــــــــــــك قـــــرب
وأنت عنـــــدي كروحي بل أنت مــــــــــنها أحـــــب
حسبي من الحب أني لمـــــــــــا تــــــــــــحـــــب أحــــــــب
حتى باهى الله بعبادة الصائمين المحبين فيقول (عبدي ترك شهوتَه وطعامَه وشرابَه ابتغاءَ مرضاتي) الحديث.
فالصوم في حقيقته سرٌ بين العبد ومولاه لا يطَّلع عليه أحد إلَّا الله _تبارك وتعالى _ ولذلك فالصوم لا تكتبه الحفظة في الصحف للعبد، وليس فيه رياء كما نص على ذلك الإمام أحمد بن حنبل _رحمه الله_ ولذلك خص الله الصيام دون سائر الأعمال بإضافته إليه _سبحانه وتعالى_ روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_ أنَّ رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلَّم_ قال: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" فالمحبون كما قيل يغارون على الأسرار التي بينهم من أن يطَّلع عليها أحدٌ لذلك قال الله _جلَّ جلاله_ في الحديث القدسيِّ : (وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) لا الملائكة الكاتبون كما أوضح سيد المحبين والمحبوبين _صلى الله عليه وآله وسلم_ لمَّا سألته السيدة عائشة _رضي الله عنها_ماذا تقول إذا أدركت ليلة القدر؟ فقال لها قولي: (اللَّهم إنَّك عفوٌّ كريمٌ تحب العفو فاعفُ عنِّي) كشف لها عن دلالة محبة الله لعباده؛ وهو العفو الذي هو بمعنى الزيادةِ في العطاء، والذي هو بمعنى الغفرِ للزلات التي هي من وصف المحبين، فعلَّمها أنْ تخاطب مولاها بما هو موصوفٌ به من العفو الذي هو دلالة المحبة ولذلك ورد في الحديث: (ورمضان شهر أمتي) لما فيه من النفع الخالص العائد عليهم من الربِّ الكريم والمولى الرحيم_ سبحانه وتعالى_ .
ومنْ ثَمَّ يكون الفرح في شهر رمضان شهر الفرح؛ فرح الطائعين بكرم المحبوب وعطاياه، وفرح الصائمين بالفطر وإتمام مراد المحبوب كما أمر، والفرحة العظمى فرحة المحب بالوصال واللقاء بالمحبوب كما أخبر بذلك سيدنا محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ حيث قال: (للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه) وفرحة عند لقاء ربه تعني أنَّ المحبين لا يفرحون إلَّا بالمحبوب ولا ينشغلون بسواه أي لا ينشغلون بما عداه.
ولذا قال بعض المحبين :
كبـــــرت هـــــــمــــَّـة عــــــــــــــــبد طمعـــــت في أن تـــــــــــــــراك
من يصم عن مفطرات فصــــــــــيامي عمَّن ســــــــــواك
ولعظم أمر الوصال مع الله_ جلَّ جلاله_ والذي يبدو جليًّا في هذا الشهر المبارك؛ تجدِ النبيَّ _صلى الله عليه وآله وسلم _ يُنبِّه المحبين على عدم الوقوع في الغفلة عن هذه الحقيقة التي هي الصلة بالله بأن ينشغل العبد عن مولاه والصلة به إمَّا بالطاعات بمشاهدة نفسه فيها والغفلة عن مولاه الذي هو المقصود من هذه الطاعة، أو بالوقوع في الموبقات فيُضيِّع منه ذلك الشهر المبارك دون أن ينال حظه من مولاه فقال صلى الله عليه وآله وسلم (رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورُبَّ قائم حظه من قيامه السهر) نعوذ بالله من القطيعة والغفلة آمين.