السنة الثالثة ربيع الأنور 1445 هـ - أكتوبر 2023 م


د. مختار محسن الأزهري
رشحات نورانية في بيان معنى الاتباع والمحبة عند السادة الصوفية (1)
د. مختار محسن الأزهري

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطاهرين وصحابته أجمعين وبعد، فهذه رشحات نورانية في حقيقة معنى الاتباع والمحبة عند السادة الصوفية؛ وذلك لأن بعض المسلمين اختصروا المحبة في الاتباع، بل واختصروا الاتباع في الاتباع الظاهري أو في الصورة فقط، ومن هنا سنورد بعض نصوص السادة الصوفية التي تبين حقيقة الاتباع ومعنى المحبة، وهو ما ورد في الآية الكريمة ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31]  فلا خلاف في أهمية الاتباع والاقتداء لسيد الكائنات صلى الله عليه وآله وسلم، لكن المراد هنا هو بيان دائرة الاتباع ودرجاته، وأيضًا بيان مفهوم المحبة وذكر ما يؤدي إلى تحقيقها.

وسأقتصر هنا على نقل كلام السادة الصوفية فقط وتصنيفه دون تعليق إلا في أضيق الحدود لوضوح الكلام في غالب الأحيان، وهذه النصوص ليست سوى رشحة من بحار علوم الأولياء وبركاتهم التي هي ذرة في بحار أنوار سيد الأولياء وإمام المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، نسأل الله أن يرشدنا إلى التأدب مع حضرته صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يؤهلنا للأخذ عن كُمل ورثته.

1. الاتباع الحق شرط في صحة الطريق

   قال العارف ابن عجيبة -رضي الله عنه- في تفسيره البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/344): "اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الطريقة، وشرط في إشراق أنوار الحقيقة، فمن لا اتباع له لا طريق له، ومن لا طريق له لا وصول له"، وقال كذلك -رضي الله عنه- لبيان شمول الاتباع القول والفعل والحال؛ أي الظاهر والباطن من الأخلاق وغيرها: "يقول الحق جل جلاله: قل يا محمد لمن يدعي أنه يحب الله ولا يتبع رسوله: إن كنتم تحبون الله كما زعمتم، فاتبعوني في أقوالي وأفعالي وأحوالي".

2. دور الشيخ في ترسيخ الاتباع الحقيقي عند المريد

   قال ابن عجيبة في البحر المديد (3/479): "إن الشيخ يحبب الله إلى عباده حقيقة، ويحبب عباد الله إلى الله، فأما كونه يحبب عباد الله إلى الله لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه، ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31]، ووجْه كونه يحبب الله إلى عباده، فذاك لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب، ودخل فيها نور العظمة الإلهية، ولاح فيها جمال التوحيد، وذلك ميراث التزكية، قال الله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾ [الشمس:9] ، وفلاحها: الظفر بمعرفة الله، فإذا عرفه، قطعًا أحبه وفنى فيه، فرتبة المشيخة من أعلى الرتب؛ لأنها خلافة النبوة في الدعوة إلى الله".

3.علاقة المحبة بالاتباع

   يقول الإمام الآلوسي في تفسيره (روح المعاني-2/135) : "فَاتَّبِعُونِي لأني سيد المحبين يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق، وروح الروح بلذة العشق، واستغراق الحواس في بحر الأُنْس، وطهارة النفس بمياه القدس، ورؤية الحبيب بعين الكل، وغمض عين الكل عن الكونين، وطيران السر في غيب الغيب، وتخلق المحب بخلق المحبوب- وهذا أصل المحبة- وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات، والمراقبات، واستنشاق نفحات الصفات، والتواضع والذل في الحركات والسكنات:

مساكين أهل العشق حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر

وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم".

   يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الفتوحات المكية - نسخة منقحة (4/ 456): "فإني ما أوصيك إلا بما جرت السنة الإلهية عليه، وهذا هو عين الاتباع الذي أمرك الله تعالى به في القرآن، فقال: ﴿ قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتِبِعُوني يحببكم الله﴾ [ آل عمران: 31]، فهذه محبة الجزاء وأما محبته الأولى التي ليست جزاء فهي المحبة التي وفقك بها للاتباع فحبك قد جعله الله بين حُبَّين إلهيين حب منة وحب جزاء، فصارت المحبة بينك وبين الله وِتْرًا حب المنة وهو الذي أعطاك التوفيق للاتباع وحبك إياه وحبه إياك جزاء من كونك اتبعت ما شرعه لك ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْـَٔاخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ وبهذه الآية ثبتت عصمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وآله وسَلَّم، فإنه لو لم يكن معصومًا ما صح التأسي به، فنحن نتأسى برسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وآله وسَلَّم في جميع حركاته وسكناته وأفعاله وأحواله وأقواله ما لم ينه عن شيء من ذلك على التعيين في كتاب أو سنة مثل نكاح الهبة ﴿ خالِصَةً لَكَ من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ومثل وجوب قيام الليل عليه والتهجد فهو صَلَّى اللهُ عَليهِ وآله وسَلَّم يَقُومه فرضًا ونحن نقومه تأسيًا وندبًا"، فالمحبَّة كما يشرح الشيخ الأكبر هي في البدء منه سبحانه وتعالى توفيقًا فتثمر الاتباع لحضرة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يثمر هذا الاتباع محبته سبحانه وتعالى جزاءً على اتباعك لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمبتدأ الأمر من الحُب ومنتهاه إلى الحُب وبينهما الاتباع، وبيَّن صلى الله عليه وآله وسلم ترتيب هذه المحبّة وكيفيتها فيما أخرجه الترمذي والحاكم عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( ‏ ‏أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا ‏ ‏يَغْذُوكُمْ ‏ ‏مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي )).

   وهذه المحبَّة لا تضر معها المخالفة، وإن كانت المخالفة مذمومة لذاتها يعاقب عليها الشرع الشريف، وهو ما يشير إلى أن المحبَّة أصل متين في هذا الدين، قال أبو طالب المكّي في قوت القلوب (2/85): "وقد كان نُعيمان يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجده في معصية يرتكبها إلى أن أتى به يوما فحَدَّه فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله، فلم يخرجه من المحبة مع المخالفة".

4. الزهد في الدنيا من أسس الاتباع

   قال الشيخ أبو طالب المكي في قوت القلوب (1/441): "وقد كان سهل رحمه الله تعالى يجعل الزهد من شرط السنَّة والاتباع لقوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتِبِعُوني) [ آل عمران: 31] قال: فمن السنَّة اتِّباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان زاهدًا، ثم تفاوت الزاهدون لأيّ شيء زهدوا مقامات على نحو علوِّ المشاهدات.

   وقال الإمام حجة الإسلام الغزالي في إحياء علوم الدين (4/ 506): "وقد قال لأمته ﴿ قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتِبِعُوني يحببكم الله﴾ [ آل عمران: 31]، فإنما أمته من اتبعه وما اتبعه إلا من أعرض عن الدنيا وأقبل على الآخرة، فإنه ما دعا إلا إلى الله واليوم الآخر، وما صُرف إلا عن الدنيا والحظوظ العاجلة، فبقدر ما أعرضت عن الدنيا وأقبلت على الآخرة، فقد سلكت سبيله الذي سلكه وبقدر ما سلكت سبيله فقد اتبعته وبقدر ما اتبعته فقد صرت من أمته وبقدر ما أقبلت على الدنيا عدلت عن سبيله ورغبت عن متابعته والتحقت بالذين قال الله تعالى فيهم ﴿ فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ‎*‏ وَءَاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا ‎*‏ فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ ‎﴾[ النازعات:37-39] فلو خرجت من مكمن الغرور وأنصفت نفسك يا رجل وكلنا ذلك الرجل لعلمت أنك من حين تصبح إلى حين تمسي لا تسعى إلا في الحظوظ العاجلة ولا تتحرك ولا تسكن إلا لعاجل الدنيا ثم تطمع أن تكون غدًا من أمته وأتباعه وما أبعد ظنك وما أبرد طمعك.

5. اتباع وطاعة الشيخ من أسس متابعة سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم

   يقول الإمام القشيري في  تفسيره لطائف الإشارات (2/ 624): "شرط الاتباع موافقة المتبوع، وألا يتفرقوا فيصيروا أحزابًا كما قال: ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر:14] والعلماء ورثة الأنبياء، والمريدون لشيوخهم كالأمة لنبيِّهم فشرط المريد ألا يتنفَّس بنفس إلا بإذن شيخه، ومن خالف شيخه في نَفَس- سرًّا أو جهرًا- فإنه يرى غبّه سريعًا فى غير ما يحبّه، ومن خالف الشيوخ فيما يستسرونه عنهم أشدّ ممَّا يظهر بالجهر بكثير لأن هذا يلتحق بالخيانة، ومن خالف شيخه لا يشمّ رائحة الصِّدق، فإن بدر منه شيء من ذلك فعليه بسرعة الاعتذار والإفصاح عمّا حصّل منه من المخالفة والخيانة، ليهديه شيخه إلى ما فيه كفّارة جرمه، ويلتزم في الغرامة بما يحكم به عليه، وإذا رجع المريد إلى شيخه بالصدق وجب على شيخه جبران تقصيره بهمته فإن المريدين عيال على الشيوخ فرض عليهم أن ينفقوا عليهم من قوّة أحوالهم بما يكون جبرانا لتقصيرهم. (( يتبع )).