السنة الأولى جمادى الآخرة 1443 هـ - يناير 2022 م


أسامة محسن
رسالة حُسن التلطف للسيّد عبد الله بن الصديق
أسامة محسن

الحمد لله الّذي شرَّفنا بالانتسابِ إلى سيدِّنا مُحمَّد صلى الله عليه وآله وسلم وجعلنا من أمَّته التي هي خير الأمم، ثم شرَّفنا بالانتساب للعلماء الوارثين للنبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم الذين هم مشاعل النُّور في كل زمان ومكان، وأخصُّ مِنهم شيخ الشيوخ وأستاذ الأساتذة: "سيدي نور الدين علي جمعة شيخ الطريقة الصديقية الشاذلية"،  فهو  رضي الله عنه فرع زكي من أصلٍ طاهر نقي، وهذا الأصل الطاهر النقي هو شيخ الطَّريقة الصدِّيقيَّة والمجدد لمعالمها  بالمعارف النورانية صاحب الفضل والفضيلة حجة المحدثين وإمام المحققين السيِّد الشريف أبو الفضل عبد الله ابن السيِّد الشريف مُحمَّد بن الصديق الغُماري الحسني رضي الله عنه وأرضاه والذي تتجدد علينا ذكرى مولده المبارك؛ والشيخ رضي الله عنه كان طويل النفس في الكتابة والتحقيق، فكتب في فنون مختلفة، ولم يؤلف في أي فن  إلا وصار هذا التأليف مرجعا مهما في هذا الفن، ومن مؤلفاته كتاب لطيف صغير الحجم عظيم القدر، وهو كتاب "حُسنُ التَلطُّفِ في بيان وجوب سلوك التصوف"، وهو ما سأعرض له في هذا المقال.

 اعتنى فيه السيد عبدالله بن الصديق الغماري بقضية السلوك إلى الله، و في مقدمة الكتاب أوضح ببيان فصيحٍ  أهميةَ التصوف، وأنَّه ركنٌ مِن أركان الدين الحنيف، وأنه الباب لتزكية النفس مِن كل وصف قبيح وتحليتها بكل وصف مليح، وبه ترتقي الأرواح في مراقي الفلاح، وأنَّ خُلاصةَ التصوف هي:  أنْ تسلمَ أمورك كلها لله، مع الرضى بالمقدور من غير إهمال لواجبٍ ولا وقوعٍ في محظور.

ثمَّ انتقل رضي الله عنه للتعريف بالتصوف، ومن هو الصوفي؟ ثمَّ بعد عرض مجموعة من التعريفات للتصوف ذكر تعريف الإمام الجنيد فقال: لعلَّ أبلغ ما قيل في التصوف هو تعريف سيد الطائفة الجامع بين الشريعة والحقيقة الإمام أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه وأرضاه، فقد سُئل فقال: تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الشريعة.

وبيَّن رضي الله عنه ما يلي:

1-                أن مبنى التصوف الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة وأنَّه خالٍ من البدع، وأنَّ الطريق إلى الله تعالى مسدود على خلقه إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما نصَّ على ذلك الإمام الجنيد، وأنَّ الطريق ليس بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة، وإنَّما هو بالصبر على الأوامر كما نقل ذلك عن القطب الشاذلي قُدِّس سره العليُّ.

2-                ما الذي ينبغي أن يتصفَ به المتصدر في طريق القوم من التبحر في علوم الشريعة؟ والحكمة من ذلك؛ أن الشخص إذا تصدر للمشيخة والإرشاد اتخذه المريدون قدوة لهم ومرجعًا يرجعون إليه في مسائل دينهم ، فإذا لم يكن متقنًا لعلم الشرع متبحرًا فيه أضل المريدين بفتواه فيحل لهم الحرام ويحرم عليهم الحلال وهو لا يشعر، وقد تعرض لأحد المريدين مسألة عويصة في الطلاق أو البيوع أو الميراث، ويرجع فيها إلى شيخه الذي لا يتقن الشرع فيفتيه بما يتراءى له، فيقع الشيخ والمريد في الخطأ والضلال وهما لا يشعران، وأيضًا فأغلب البدع والخرافات إنَّما دخلت في الطريق بسبب المشايخ الذين تصدروا بغير علم ونصبوا أنفسهم للإرشاد من غير أن يكونوا مستحقين لهذا المنصب الجليل ولولا ذلك لبقي الطريق نقيًّا سليمًا كحاله على عهد الجنيد.

3-                   انتقل السيد عبدالله بن الصديق في الفصل الذي يليه إلى ذكر أكابر العلماء الذين انتسبوا إلى التصوف، وكأنَّه هنا يَذكر ذلك كنتيجة متوقعة من كون الطريق إلى الله مبنيًا على الكتاب والسنة؛ فهو الركن الثالث من حديث جبريل عليه السلام؛ ألا وهو الإحسان، فدفع ذلك العلماء إلى سلوك طريق التصوف، وذكر منهم الحافظ أبا نعيم، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، والحافظ ابن الصلاح، والإمام النووي، وتقي الدين السبكي، وابنه تاج الدين السبكي، والحافظ السيوطي، وغيرهم، وهكذا لا تجد عالمًا كبيرًا ولا محققًا شهيرًا إلا دخل في طريق القوم والتمس البركة من أهله، وفتح له وبه بسبب الانتساب إليه، وهذا أمرٌ معلومٌ يدركه من قرأ تراجم العلماء وتتبع سيرتهم واستقصى أخبارهم ، ومن لم يعرف ذلك أو لم يعتدَّ به فهو جاهلٌ متعنتٌ لا اعتداد به ولا عبرة بما يقول.

4-               في الفصل الأخير نصَّ رضي الله عنه على أنَّ سلوك طريق التصوف واجب مُحتَّم لا يكمل دين المرء إلا به، وبين علة هذا الحكم من عدة أوجه نذكرها على سبيل الإجمال:

الوجه الأول: أنَّ التصوف هو مقام الإحسان، الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة المبينة في حديث جبريل عليه السلام.

الوجه الثاني: أنَّ التصوف هو العلم الذي تكفَّل بالبحث عن علل النفس وأدوائها وبيان علاجها ودوائها؛ لتصل إلى مَرتبة الفلاح، وتدخل ضمن قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا‎﴾[الشمس:9].

الوجه الثالث: أنَّ التصوف اعتنى بتهذيب الأخلاق، ومخالفة هوى النفس، وأنَّ التصوف هو خلق الصحابة والتابعين والسلف الصالح الذين أُمرنا بالاقتداء بهم.

الوجه الرابع: أنَّ في سلوك طريق التصوف صحبة المشايخ الكُمَّل والاقتداء بهم، وقد أمر الله بذلك في قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾[لقمان:15].

الوجه الخامس: أنَّ سلوك الطريقِ يُنور بصيرةَ الشَّخص ويَسمُو بهمتِه؛ حتى لا يبقى له تعلق إلا بالله، ولا يكون له اعتماد إلا على الله، فيصير مصون السر عن الالتفات إلى الخلق.

الوجه السادس: أنَّ في سلوك الطريق بصحبة شيخٍ مرشدٍ عارفٍ الخروج مِن رُعونات النفس والحماية للمريد من كل ما يمنعه من الوصول إلى الله تعالى.

الوجه السابع: أنَّ في سلوك طريق التصوف الإكثار من ذكر الله، والاستعانة بصحبة الشيخ على ذلك، ولا شك أنَّ الذكرَ يُصفي القلوب، ويؤدي إلى اطمئنانها، كما قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد:28].‏

وخير ما أختم به المقال هو ما ختم به سيدي عبدالله بن الصديق كتابه، فذكر رضي الله عنه خطرًا جسيمًا يحيطُ بالسالكين في الطريق، وحجابًا عظيمًا لعوام المؤمنين عن طريق رب العالمين، وهو: أنَّه قد دخل في طريق القوم دخلاء أدعياء وأغبياء جهلاء، اتخذوا الطريق سُلمًا لتحقيق شهواتهم، وتحصيل أغراضهم وابتدعوا فيه بدعًا ما أنزل الله به من سلطان، وزعموا أنَّهم أهل الحقيقة، وأنَّه جائز لهم ما هو محرم في الشريعة، والحقيقة أنهم كاذبون؛ فإن الشريعة والحقيقة صنوان، وما خالفت الشريعة الحقيقة قط إلا في نظر جاهلٍ، فمثل هؤلاء ليسوا من الصوفية في شيء، وأول من يتبرأ منهم الصوفية.

 ومن الظلم البين أن يعترض بعض الناس بفعل هؤلاء الجهلة ويجعله حجةً على التصوف والصوفية، وما التصوف إلا اتباع الكتاب والسنة، وما الصوفية إلا قوم جاهدوا أنفسهم في الله، فهداهم الله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. [ العنكبوت: 69].