
شهر رمضان باب التعرف على الرحمن
إيمان الريطباستهلَّ ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ خِطابه لعباده ببسم الله الرحمن الرحيم، وجعلها مَبنى العلاقة ومَدارها، ومُبتدأ الكون، وخَط سيره منه إلينا ـ سبحانه وتعالى ـ ثم منا للخلق أجمعين بالرحمة. خلق ربنا كل شيء، ومَفاد رحمته الابتداء والعطاء بلا علة أو سبب بقُدرة وإرادة مطلقة.
ومازال الكون ممدودًا بالرحمانية التي أظهرت كل شيء، وأبقت عليه وأمدته بلا غرض ولا سبب.
إلَّا أن ضجيج المعلومات الخاطئة وتوافد العبارات المدسوسة من الشرق والغرب أفسدت ما طالته من المعاني الصافية التي ربَّانا عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعلوا للرحمة سببًا وأقاموها على استحقاق العبد لها بعمله وحوله وقوته؛ فلِكَي تُصيبني الرحمة يجب أن أعمل- فلا رحمة إلا لعامل -، وضببوا الآيات والأحاديث والقصص والوقائع التي تحمل لنا معنى رحمته سبحانه وتعالى. فتغيَّر فينا المَعنى وأَفنى فينا ما أَفنى و تحوَّل العمل من شُكر إلى استثمار، و تغيَّرت العلاقة من ودٍ إلى حِسبة، ومن أمان إلى رُعب ومن راحة إلى تعب، وخمدت الأرواح وأصبح القلب يدُق ألمًا وخوفًا؛ لا حبًّا ولهفة.
من رحمته ـ سبحانه ـ أن جعل مواسم تُذكِّرنا بتلك الرحمانية التي أوجدتنا وتعهدتنا بالرعاية والعناية، ومنها هذا الشهر الفضيل شهر رمضان؛ لكي نتعرف على جميل صفاته ـ سبحانه ـ وعظيم هباته وكرمه الذي يُصيب ولا يُصَاب.
"شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ"، شهر الرحمات والبركات التي لم تنقطع عن المخلوقات يومًا، وإنما جعله ربنا شهر الآيات والكُشوفات المظهرة للهبات الربانية والأعطيات الصمدانية، فمَن غاب عنه المعنى الحقيقي للعطاء فهذا شهر الرحمة يُذكِّره بالصفة الإلهية الخالقة بلا سبب، الواهبة بلا طلب.
تَتَعدد أعطِيَات الله الزمانية والمكانية، فقد يُظهر عطاءه بمكان، وقد يظهره في زمان، وليس المقصود من هذا التحديد تحجير أو حصر لعطاء الله؛ بل دلالة عليه ـ سبحانه وتعالى ـ فهو يختار من مخلوقاته ما يشاء ويضع فيها من التجليات ما يشاء بما يدل عليه ويقرب إليه ، يُظهرها لعباده في قالب أزمنة وأمكنة وأحوال لتعرفهم على ربهم وخالقهم.
فجعل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمائة ألف صلاة، وجعل في التوبة عبادات قلبية أرجعها العلماء إلى 35 عبادة تخفى على صاحبها، وهكذا جعل في ثنايا المخلوقات دلالات على العطايا الكثيرة، وليس من الفطانة أن يبقى العبد مع الإشارة فيجعل النهر الجاري كالعين.
واختار ـ سبحانه وتعالى ـ من الأزمنة الدالة على رحمته هذا الشهر الفضيل الذي يهلّ علينا شهر رمضان، فبمجرد وصول زمنه تغشانا الرحمة وتُفتح العطاءات بغير حساب؛ فيُعطي ربنا ويغفر ويرحم ويعتق من النار بالليل والنهار.
فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هذا شهر رمضان جاءكم تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتسلسل فيه الشياطين"
رحمة عظيمة قد تبدوا موسمية إلا أنها لمتأمل دائمة تهُبُّ نسماتها في كل موسم لتُذكرنا بالموسم الأول وتعلقنا بالرب الأكرم.
كأنها شاشة تُفتح كل سنة لنشاهد صفته الرحمانية الواهبة التي نغفل عنها، فيُجدِّد ربنا هذا المشهد العظيم كل سنة، ألا هذه رحمتي فَيا باغي الخير أقبل.
لكن الجهل توطن فينا وحرصنا على العمل في هذا الشهر بغير علم فلم نحصد إلا الألم، اعتقدنا أن رحمته ليست وهب وأن عطائه مقيد بقيد الكسب، فكم مرة نزعنا إلى الاقتتال على العمل بما يفوق الطاقة لنُصيبَ رحمة الله وعطائه، وكم مرة أحسسنا بتلك الحسرة والانكسار على مُضي رمضان ولم نُكمِل بعدُ أحزابنا ولم نَقُم ليالينا، كم مرة أحسسنا بأننا هَمل والله لا يقبلنا، كم مرة تملكنا ذلك اليقين أننا قُمنا بالمهمة على أكمل وجه، ولم يفتنا شيء من العبادات أو دقيقة من ليلة القدر، كم مرة نهشنا هذا الإحساس أو ذاك..
كثيرًا ما كنا ننسلخ من صفة الإنسان بأفعالنا المجردة من المعرفة بالرحمن؛ فإما يصيبنا التجبّر وإما الانتكاس.
كلنا على الأرجع جرّب ذلك، فمن مِنَّا جَرَّ معه السعادة بعد العمل الدؤوب في رمضان ؟!
و تنقضي هذه الأيام المعدودات من رمضان ،وتضيع علينا فرصة التعرف على الرحمن، وتضيع علينا فرصة السعادة بعد رمضان، وتضيع علينا لذة شُكرِ المنان؛
لنخرج من الزمن الفضيل بحمولة من الأعمال قلَّت أو كثُرت بلا معنى حقيقي وأحيانًا بمعنى مشوّه أن رحمة الله ستقِلُّ، أو أن ربنا مِنّا سَيملُّ، كلٌ وما جادت عليه به قريحته من ظنون..
وهذا غير صحيح، فرحمة الله ذاتية مطلقة دائمة في كل زمان، وإن جدد الله ـ سبحانه وتعالى ـ علينا مشهدها في أوقات معينة فهذا اختصاصٌ بالتجلي، لا تحديد للرحمة. فالزمن يمر ورحمة الله لا تمر.
إن النظر إلى هذا الشهر الكريم على أنه تجلّي للرحمة الإلهية والعطاء اللامشروط يُحدث تعلقًا بالله في كل حال ، وزيادة في محبتة ورغبة في لقاءه، يُحدث ثقة في جنابه وتوكّلًا عليه، واستقبالًا لمِنَنِه على الدوام. معانٍ تُنتج من الثمرات والسعادات الشيء الكثير، تَجعل العبد في سمو روحي وثبات نفسي وهدوء بدني يَلمسها من أدرك مشهد الرحمة في رمضان لتُحيله على الرحمن بلا زمان ولا مكان.
فيكون عيد الفطر بحق عيدًا؛ لأنه مكلل بالفرح بالله ورحمته، لا بنشوة الإنجاز والتحقيق والسبق لمَن قلَّ عمله.
إن الناظر لرحمة الله في هذا الشهر يرى ما فيه من بركات وتشريفات وخطابات، إذ فيه تنزلت الآيات القرآنية، مناديةً على العالمين أن بسم الله الرحمن الرحيم؛ لتعرفهم عليه وتقربهم إليه، فما أشرفه من زمن ذاك الذي ينادي فيه الحبيب على المحبوب، وما أعظمه من خَبَر ذاك الذي فيه البشائر والعِبر.
وإن الناظر لرحمة الله في هذا الشهر يرى عبادة الصيام التي أفردها الله له، فقال جلَّ من قائل: (إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ )، وأخفى ماهية هذا الجزاء، فلا أحد يعرف أو يتخيل أو يخطر له ما تقتضيه هذه النسبة من عطاء، نسبة ناطقة بلسان الرحمة: إن لم ترَ عطائي في الأيام، ولم ترَ عطائي في الكلام فهذه عبادة الصيام فيها جزاء يخفى عن الأنام.
وإن الناظر لرحمة الله في هذا الشهر يرى الهيئة الرحمانية القرآنية الربانية، الرحمة العظمى والوصلة الكبرى، الجامع لمعاني الدلالة على الله، القائم بين يدي مولاه، الشافع بإذنه ورضاه، المنادي على السلامة لأمته في أرضه وسماه، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الهداية والهدية، ( فمرحبًا بهدية ربنا ) كما يقول شيخنا ــ كان له الله ورضي عنه وأرضاه ـ وفي كلامه إشارة لذي حُب ولُب.
إلَّا أن الواشين أخفوا الأعراس عنا، وقطعوا طريق الهناء، وغلَّقوا الأبواب وفرقوا الأحباب، فصرنا نحفر في الصخر نبحث عن القليل ونحن غرقى في نعم ربنا الجليل.
وإن من نعم الله التخلُّق بأخلاق الله، فرمضان تخلُّق بأخلاق الرحمن، تلك الصفة الذاتية الجامعة لأسمائه وصفاته، وهو معنى الربانية الفاتحة لأبواب الجنان في قلب الإنسان، الموصدة لأبواب النيران، المصفدة للشيطان، إنها الربانية التي دعا إليها الله سبحانه فقال جل في علاه: (وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)؛ أي تخلَّقوا بأخلاقي، ولا شيء يفيض على العبد من هذا المقام إلا عِبادةُ التعرف على الله، فالمعرفة بالله مدار الكون وغايته دلالةً وهدايةً تعلقًا وتخلُّقًا، وهي سر السعادة التي تجعل لكل شيء معنى، متى ما خلاَ من مادة انقلب همًّا وغمًّا وخوفًا وقلقًا. كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: (أَلا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللَّهَ باطِلٌ).