السنة الأولى ذو الحجة 1442 هـ - يولية 2021 م


د. يسري رشدي جبر
شرح رسالة رسلان - 1
د. يسري رشدي جبر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم وبارك وعظم وعلى آله وصحابته والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

أحب في هذه المقالات أن أعلق تعليقا موجزا على «رسالة التوحيد» للعارف بالله الشيخ أرسلان الدمشقي، وهي رسالة مشهورة معلومة اهتم العلماء بشرحها على مر العصور.

ومصنف هذه الرسالة العظيمة: «الشيخ أرسلان بن يعقوب بن عبد الله الدمشقي (ت.699) أصله تركماني، ولد في قرية صغيرة بجوار الرَقَة بسوريا وأجداده من التركمان ، ووالده كان جنديا يحارب الصليبين وعمل في النجارة وورث مهنة النجارة عن أبيه، وكان الشيخ متفرغاً للعبادة والعلم والذكر.[1]

وقد قام بشرح هذه الرسالة جماعة من أهل العلم والولاية على رأسهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في كتاب سماه: «فتح الرحمن بشرح رسالة الولي أرسلان»، وسيدي الشيخ عبد الغني النابلسي في كتاب سماه «خمرة الحان ورنة الألحان في شرح رسالة أرسلان»، وسأحاول هنا أن أقرب مفاهيمها بما فتح الله علي به من غير أن أتعرض لشروحها، وكل هذا بمدد مشايخنا جزاهم الله عنا خيراً والكل يستمد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو منبع الأسرار وترياق الأغيار.

 يقول سيدي العارف بالله أرسلان الدمشقي قدس الله سره: «كُلُّك شِرْكٌ خَفِىٌّ. وَلاَ يَبِينُ لَكَ تَوْحِيدُكَ إِلاَّ إِذَا خَرَجْتَ عَنْكَ؛ فَكُلَّمَا أَخْلَصْتَ يُكْشَفُ لَكَ أَنَّهُ هُوَ لاَ أَنْتَ فَتَسْتَغْفِرُ مِنْكَ. وَكُلَّمَا وَحَّدْتَ بَانَ لَكَ الشِّرْكَ، فَتُجَدِّدُ لَهُ في كُلِّ سَاعَةٍ وَوَقْتٍ تَوْحِيدًا وَإِيمَانًا. وَكُلَّمَا خَرَجْتَ عَنْهُمْ زَادَ إِيمَانُكَ، وَكُلَّمَا خَرَجْتَ عَنْكَ قَوِىَ يَقِيُنَكَ.

يقول الشيخ المصنف: «كُلُكَ شِرْكٌ خَفِيٌ وَلَا يَدِينُ لَكَ تَوِحِيدُكَ إلَّا إن خَرَجْتَ عَنْك» 

كلك أيها الإنسان شرك خفي؛ لأنك ترى أن لك حولاً وقوةً وإرادةً، وأنك موجود مع الله، فكأنك اعتقدت أن مع الله شيئا فأين التوحيد إذن؟! والتوحيد: أن تعتقد أنه ليس مع الله شيء، فحتى لو قلت بلسانك: لا اله الا الله وأنت ترى نفسك وقوتك وحولك وتشعر بذاتك فهذا هو عين الشرك وإن كان خفياً لا تدركه، تظن أن لك عملاً والعامل في الحقيقة هو الله  سبحانه وتعالى ، وتظن أن لك ذكرا والذاكر هو الله سبحانه وتعالى، وتظن أن لك إرادة والمريد هو الله سبحانه وتعالى، وتظن أن لك عبادةً والمُقَوِّي عليها هو الله  سبحانه وتعالى، ولذلك يقول «كُلُكَ شِرْكٌ خَفْيٌ» اي بالنظر إلى حولك وقوتك واغترارك بنفسك كما قال الكافر-قارون-: ﴿إنما أوتيته على علم عندي﴾[القصص:78].

فأنت تقول ذلك بلسان حالك لا بلسان مقالك تقول «أنا فعلت وأنا اجتهدت وأنا فهمت وأنا قلت وأنا وأنا وأنا» من أنت ؟؟!! فلا يقول أنا إلا الله سبحانه وتعالى، لأنك لست موجوداً مع الله حتى تقول أنا، بل أنت موجود به فلا أنا لك أصلاً. والذي يقول أنا بحق هو القائم على كل شيء، وما زلت تشعر بنفسك وهذه اثنينية، فأين التوحيد؟

ثم قال المصنف:«وَلَا يَبينُ لَكَ تَوِحِيدُكَ إلَّا إن خَرَجْتَ عَنْك»  أي بالتبري من حولك وقوتك، وأن تعلم أنه لا وجود لك مع الله سبحانه وتعالى، بل وجودك به لا معه، فإذا علمت ذلك بدأت بنفسك وانتهيت به سبحانه وتعالى، بدأت لله وانتهيت بالله، فالبداية لله اجتهاداً منك وظناً أن الاجتهاد صدر منك فيكون اجتهادك وعملك معلولان  من البداية حتى تكتشف ذلك بنور التوفيق، فتعلم أن الذي خلق فيك الفعل هو الله سبحانه وتعالى، والذي وفقك وقوَّاكَ هو سبحانه وتعالى، فتتبرأ من حولك وقوتك فتخرج عنك أي: عن نفسك وعن إرادتك وعن قدراتك فتعبده بالافتقار فلا تعتمد على عملك كما قال ابن عطاء الله السكندري « من علامة الاعتماد على العمل قلة الرجاء عند وجود الزلل».

قول الشيخ المصنف: « وَلَا يَبينُ لَكَ تَوِحِيدُكَ إلَّا إن خَرَجْتَ عَنْك»، وسيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه يشير إلى هذا المعنى فيقول: «وخذني إليك مني وارزقني الفناء عني ولا تجعلني مفتوناً بنفسي محجوباً بحسِّي» فالمعنى واحد وكل واحد من العارفين يعبر عنها بطريقته.

ولقد عبرت عن هذا المعنى في الصلوات اليسرية بطريقة أخرى «فأكون فانياً في عين بقائك وباقياً في عين فنائي».

وقال سيدنا أبو اليزيد البسطامي في إحدى مواقفه مع الله ومخاطباته لله، قال لربه يخاطبه بكله: «ربِّ كيف أجدُك؟ قال فخاطبني من داخلي: اتركْ نفسكَ تَجِدْنِي».

ثم قال المصنف: «فكلما أخلصت يكشف لك أنه هو لا أنت فتستغفر منك» فكلما أخلصت أيها المكلف يكشف لك أنه هو الذي خلَّصك له، وهو الذي أعطاك وأولاك وقربك، وهو الذي أوجدك من البداية وأمدك في أثناء وجودك ووفقك، فهو الفاعل على الحقيقة، فكلما أخلصت أي خلَّصت أعمالك من رؤية نفسك فيها سيكشف لك أنه هو الفاعل لا أنت. ثم قال المصنف: «وكُلَّمَا وَحَّدتَّ بَانَ لَكَ الشِّرْكُ»، لأنك أيقنت أنه سبحانه مصدر الوجود، والله هو الواحد وصور الوجود كثيرة وهذا معنى «وحدة الوجود» عند الصوفية فلم يقصدوا أن الله حَلَّ في موجود، لأنه لا موجود بحق إلا الله تعالى، فيتضح لك أن كل من رأى أن معه شيئا لم يوحد: ﴿قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـٰدَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـٰذَا الْقُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لَّآ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىٓءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٩]، فأكبر الشهود أن ترى الله فإن رأيت الله لا ترى معه شيئا.

ثم قال المصنف: «وَتُجَدِّدُ لَهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَوَقْتٍ تَوْحِيدًا وَإِيمَانًا» في كل لحظة يردك إليه فتجد توحيداً جديداً فترد مع كل لحظة إليه، فتتغير أحوالك ويردك إليه، ويتجدد الإيمان باستمرار، فأنت محتاج إلى أن تجدد التوحيد مع كل نَفَس، والصوفية عندهم عبادة يقولون عنها «عبادة النَّفَس» فتجدد له مع كل ساعة، والمقصود بالساعة هنا: الوقت وليس المقصود بها الساعة الزمنية المتكونة من ستين دقيقة، ولذلك قال ابن عطاء الله السكندري في الحكم: «علمتُ أن مرادك مني أن تتعرف إليِّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء».

هذا والله تعالى أعلى وأعلم.

يتبع


[1] انظر: ديوان الإسلام للغزي 1/36، والأعلام للزركلي 1/288.