
شُعَبُ الإيمَان (2)
عبد الله أبوذكريتكلمنا في المقال السابق عن فضل ذكر كلمة التوحيد (( لا إله إلا الله )) وأنّها أعلى شعب الإيمان، وهو باب الأقوال من شعب الإيمان، وهو باب وسّعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (( سبق المفرِّدون، قالوا وما المفرِّدون يا رسول الله؟، قال الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات )) رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفي رواية: (( سبق المفرِّدون، قالوا وما المفرِّدون يا رسول الله؟ قال المستَهتَرون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافًا )) والمستَهتَرون بفتح التاءين قال المنذري: المستهترون بذكر الله هم المولعون به المداومون عليه لا يبالون ما قيل فيهم ولا ما فعل بهم، فقد أصبح الذكر هو ديدنهم فيذكرون الله تعالى على كل حال، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (( أكثروا ذكر الله حتى يقولوا: مجنون ))، وفي رواية: (( أكثروا من ذكر الله حتى يقول المنافقون: إنكم مراءون )) وعلى ضعف بعض هذه الروايات إلا أن العلماء أخرجوها واحتجوا بها في فضل الذكر لموافقتها للكتاب العزيز إذ يقول تعالى: ﴿ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلا ﴾ [الأحزاب:41-42]، وأخرج الطبراني في الأوسط عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان )) يعني ترك الإيمان، إذًا فالذكر شأنه عظيم وهو الباب الأوسع والطريق الأقصر، قال تعالى: ﴿ اتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـٰبِ وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ إِنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت:45]، فجعل ذكر الله أكبر من إقامة الصلاة على أهميتها وفخامتها في الشرع وضرورة إقامتها على وجهها فهي عمود الدين وذروة سنامه كما يقول صلى الله عليه وآله وسلم.
وكما أشار الوحي الشريف في الكتاب والسنّة إلى أهميّة الإكثار من الذكر، وبيّنا ذلك في حق الشُّعبة العُليا من شعب الإيمان وهي ذكر (( لا إله إلا الله ))، فإن القرآن قد أشار إلى أهمية ذكر آخر وخطورته وهو الاستغفار، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَـٰرًا * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴾ [نوح:10-13]، فجعل من آثار هذا الذكر العجيب نزول الأمطار والإمداد بالأموال والبنين والجنّات والأنهار في دار الدنيا، وجعل من آثاره في دار الدنيا كذلك الاستمتاع بالحياة وجعلها يسيرة، إذ يقول: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَـٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُۥ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود:3]، ومن آثاره كذلك زيادة القوة، قال تعالى: ﴿ وَيَـٰقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود:52]، والاستغفار سبب في عدم نزول العذاب، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال:33]. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب ))، وعنه أيضًا صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا ))، إذا فهو ذكر خطير أثره كبير في الدنيا والآخرة، ومن آثاره محو الذنوب أولًا بأوّل فلا يبقى على الإنسان ذنب في يومه إذا كان ملازمًا للاستغفار، ومن آثار محو الذنوب استجابة الدعاء وتنزل الأرزاق كما تبيّن.
فمن أراد أن تأتيه الدنيا وتحسن معيشته فيها ولا يبقى عليه ذنب وتتنزل عليه الأرزاق الحسيّة والمعنوية فليكثر من الاستغفار، وللاستغفار صيغ كثيرة؛ منها أن تقول (( أستغفر الله )) أو (( أستغفر الله العظيم ))، ومنها ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (( سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، قَالَ : وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ )) فذكر سيد الاستغفار صباحًا ومساءً من موجبات الجنة فهيا بنا نكثر من الاستغفار ونجعل لنا في كل يوم منه نصيبًا لا يقل عن ثلاثمائة إلى ألف استغفار نوزعها على يومنا حسب طاقاتنا، فذلك من أسرار سعادة الدارين ... يتبع