
شُعَبُ الإيمَان (3)
عبد الله أبوذكريومازلنا مع الشُّعبة الأعلى في شُعب الإيمان وهي شُعبة الذِّكر باللسان لكلمة التوحيد (( لا إله إلا الله )) ويأتي معها كلُّ ألوان الذكر، فهو باب واسع وتكلمنا عن الاستغفار وفوائده الدنيويّة والأخرويّة، إذ به تستنزل الرحمات والأمداد الإلهية بمحو الذنوب وستر العيوب وحجب النفوس عن الشرور والآفات مهما عظمت، إذ ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (( منْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّه الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو الحيَّ الْقَيُّومَ وأَتُوبُ إِلَيهِ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ )) [رواه أبو داود والترمذي والحاكم]، وكانت من علامات لزوم الاستغفار وفوائده الدنيويّة المحسوسة كثرة الأرزاق الحسيّة والمعنوية من حيث لا تحتسب، وزوال الهموم والخروج من كل ضيق: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب )) [رواه أبو داود].
ومن فوائد كثرة الاستغفار كذلك أنّه باب الترقّي للعبد مع مولاه، قال تعالى واصفًا أهل الجنّة: (( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ * ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ))[الذاريات:15-18]، فهؤلاء المتقون هم أهل الجنّة في الآخرة، فما عملهم في الدنيا؟ كانوا قبل ذلك مُحسنين؛ يعني في دار الدنيا، وكانوا قليلًا من الليل ما يهجعون؛ يعني يقيمون الليل، مقلّين في النوم، ثم إذا انتهوا من صلاتهم بالليل لزموا الاستغفار في وقت السّحر قبل الفجر! فأي ذنب فعل هؤلاء؟ ومن أي شيء يستغفرون؟ لقد وصفهم جل شأنُه بأنهم يستغفرون بعد قيام الليل، فهذا الاستغفار لا يفهم منه أنَّه في مقابل المعاصي والآثام بالضرورة، بل هم يستغفرون ليتبرأوا من عملهم الصالح؛ من قيام الليل أن يشوبه شيءٌ لغير الله، أو هو استغفار محض تعبُّد خالص لله بلا سبب، فهذا استغفار للترقّ في مراقي العبوديّة للمولى سبحانه جل شأنه، فالاستغفار لا يلزم منه وجود ذنب بل العبد يستغفر أبدًا تعبدًا لله، قال تعالى أيضًا: (( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّـٰبِرِينَ وَالصَّـٰدِقِينَ وَالْقَـٰنِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)) [آل عمران:17]، فهذه خصلة أهل الرضا والقَبول من المولى سبحانه وتعالى، وهي الاستغفار بالأسحار بلا سبب، بل هي باب الترقي والقبول، قال سيدي أبو مدين الغوث قدس الله سرّه:
وحط رأسك واستغفر بلا سبب *** وقم على قدم الإنصاف معتذرًا
وقال صلى الله عليه وآله وسلم (( إنَّه لَيُغَانُ علَى قَلْبِي، وإنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ في اليَومِ مِائَةَ مَرَّةٍ )) [رواه مسلم في صحيحه وأبو داوود]، وسأل سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه عن معنى هذا الحديث وشغله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ليُغان على قلبي ))، فالغين هذا يعني غيمة، فأيّ غيمة هذه التي تغيم على قلبه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، هذا كلام به إشكال، فالمتبادر للذهن أن الغيم على القلب يكون من أثر الذنوب، والاستغفار لإذهابه، فهذا مما لا يصح في حقه صلى الله عليه وآله وسلم وهو المعصوم الذي تنزه قوله وفعله عن الآثام والأهواء، قال تعالى: (( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰٓ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَىٰ ))، فرآه صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فذكر الحديث، فدلّه صلى الله عليه وآله وسلم على المعنى الصحيح فقال: (( يا علي غين أنوار لا غين أغيار ))، فهناك إذا غين الأغيار الذي هو من آثار الذنوب والمعاصي، وغين الأنوار الذي هو من آثار الترقي مع الله في كل يوم مائة مرة، فالاستغفار باب الترقي ليس فقط عن الأغيار بل وفي مراقي الأنوار.