السنة الأولى جمادى الآخرة 1443 هـ - يناير 2022 م


د. مجدي عاشور
شيخنا وشيخ أشياخنا السيد عبد الله بن الصديق الغماري الفقيه
د. مجدي عاشور

إذا ما استعرضنا حياة السيد عبد الله بن الصديق رضي الله عنه نجده عاشَ حياة مليئة بالترحال والتطواف؛ طلبًا للعلم وبحثًا عن التجديد ووضع بذور التوعية والتأمل فيما هو جديد، بعيدًا عن الجمود والتقليد، وكان للبيئة التي نشأ فيها الأثر الواضح في بناء شخصيته وتكوينه العلمي، ومن المعلوم أن الشخص يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، فيكون لها الأثر في تكوينه وبنائه، حتى حكى القرآن الكريم عن  ملكة سبأ مُبيِّنًا سبب إعراضها؛ قال تعالى:  ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل: 43].

ومفهوم ذلك: إذا نشأ الإنسان في بيئة صالحة، فلا شك أنه ينشأ على الصلاح في غالب الأمر، وتلك سمة غالبة من سمات شخصية السيد عبد الله بن الصديق رضي الله عنه؛ الإمام الحجة الفقيه الأصولي المحدث؛ حيث نشأ وشبَّ في بيت علمٍ وصلاح، فوالده رحمه الله تعالى واحد من كبار محدثي المغرب، وله زاوية معروفة بـ”الزاوية الصديقية”، كانت تُلقى فيها دروس الحديث والفقه واللغة، وهو أول من تعهد ابنه بالرعاية والتربية والتعليم والتثقيف؛ فحفَّظه القرآن الكريم وعدة متون تعليمية في الفقه والحديث واللغة والبلاغة والمنطق وغير ذلك، وكان السيد عبد الله رحمه الله تعالى من علماء الأزهر الشريف؛ حيث حصل على عالمية الغرباء وعالمية الأزهر الشريف الكبرى عام 1931م، في خمسة عشر فنًّا.

- وقد رزقه الله تعالى ذهنًا ثاقبًا وعقلًا واعيًا وذاكرة قوية، فكان إذا نظر في كتابٍ حفظه بما فيه، بل كان يحيل طلابه ومريديه من حافظته في كثير من الأحيان على المسائل في الكتب بالجزء ورقم الصفحة.

- بدأ حياته بالتفقه على مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى، كعادة غيره من المغاربة، ثم انطلق منه إلى المذاهب الأُخرى، حتى وصل رحمه الله تعالى إلى أنه كان يخرج عن المذهب المالكي في كثير من الأحكام؛ بل ومنه إلى أقوال المجتهدين من خارج المذاهب الأربعة، فكان يأخذ بمذهب الظاهرية في بعض المسائل، فيما يعرف الآن بـ ( الاختيار الفقهي )، وهو ما تمارسه الآن دور وهيئات الإفتاء على مستوى العالم.

- تبحَّر السيد عبد الله رحمه الله في علم أصول الفقه؛ فشرح "جمع الجوامع بشرح المحلي" في رواق المغاربة بالجامع الأزهر المعمور، مرتين في أربع سنوات، فتتلمذ له كثير من علماء الأزهر الشريف، كما تخرج على يديه جمٌّ غفير من أهل العلم في المشرق الإسلامي وغربه.

- كما درَّس أيضًا شرح الملوي على السلم، والجوهر المكنون في البلاغة للأخضري، وشرح المكودي على ألفية ابن مالك، وتفسير النسفي، والأحكام للآمدي في أصول الفقه، والخبيصي على تهذيب السعد في المنطق، وتفسير البيضاوي، وغير ذلك من المتون العلمية المعتمدة.

- تمكن في علمي الأصول واللغة تمكنًا بالغًا، حتى وصف ذلك - كما سمعت منه - بأنه يؤهله للاجتهاد، وله شرحٌ مهم ونافع على متن الأجرومية، الذي اعتبر أوسع شرح لها، سمَّاه شقيقه الحافظ أبو الفيض أحمد بن الصديق : "تشييد المباني لتوضيح ما حوته المقدمة الآجرومية من الحقائق والمعاني" .

 وقد بلغت تآليف شيخنا رحمه الله تعالى في غير ذلك نحوًا من مائة عنوان، كما حقق الكثير من النصوص التراثية، وما زالت تآليفه الفريدة تطل بأنوارها على صفحات التاريخ إلى الآن.

- كما أنَّ للشيخ رحمه الله جهودًا في التفسير وعلوم القران الكريم، وقد كُتبت عنه رسالة علمية (ماجستير) في جامعة الأزهر الشريف بعنوان: "الشيخ الامام عبد الله صديق الغماري وجهوده في التفسير وعلوم القران" عام ٢٠٠٩م .

- قام بتعريف البدعة وتقسيمها، وألف فيها كتابًا مستقلًّا أسماه "إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة"، مقتفيًا فيه سنن الأئمة الأولين؛ كالعز بن عبد السلام وغيره، ليردَّ بذلك على ما كثر في التبديع والحكم على كثير من الأفعال التي لها أصل في الدين بأنها بدعة وهي ليست بدعة، وذلك حسبما اقتضته الأدلة، في إطار القواعد الأصولية؛ مؤكدًا أنَّ الأمر بالإضافة إلى كونه محتاجًا إلى التأني والتريُّسِ، يحتاج أيضًا إلى تعلم وفقه وسعة فهم للنصوص وإدراك لتصرفات الأئمة والسلف الصالح رضوان الله عليهم مع ما يصدر من الجناب النبوي، مما حدى بالشيخ أن يعالج ذلك في مؤلَّف آخر ماتع أسماه "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك"، ليحاول إثبات أن ترك النبي وآله وصحبه لبعض الأعمال لا يدل بالضرورة وفي كل الحالات على أن تلك الأعمال بدعة أو حرام أو مكروه شرعًا ولا يجوز تبديع الناس بحجة أنهم فعلوا ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكرام، وبهذا الفهم العلمي الأصولي ينبغي الاحتياط في اتهام الناس بالبدعة والصاق التهم بهم ووصفهم بأنهم مبتدعة ضالون وهذا يدل على عمق الشيخ العلمي في المسائل الفرعية والجزئية.

- وقد وصل السيد عبد الله رحمه الله تعالى في علم الحديث بالخصوص، إلى درجة عالية بلغت درجة المحدث، حتى اعتبر حافظ العصر، كما كان يطلق عليه بعض كبار علماء وقته؛ إذ كان يستظهر أكثر من عشرة آلاف حديث بأسانيدها، ومعرفة رجالها، وقد بلغ في علوم الحديث شأوًا كبيرًا؛ دراية وروايةً، وقد شرح "نيل الأوطار" للإمام الشوكاني، وكان ينصحنا به دومًا، وكان يذكر أنَّ لابن الملقن كتابًا في جمع الأحاديث الضعيفة التي استندت عليها المذاهب الفقهية.

وقد تكلم أيضًا في دقائق المسائل الحديثية؛ كمسألة العمل بالحديث الضعيف، ومسألة هل حديث الصحيحين يفيد اليقين؟

 بالإضافة إلى فهمه وشرحه لكثير من الأحاديث التي يوهم ظاهرها اللبس أو التعارض.

- عمل السيد عبد الله رحمه الله مدرسًا للعلوم الشرعية بالجامع الأزهر بصفة تطوعية، وعينته وزارة الأوقاف المصرية مفتشًا للدروس التي تلقى في الصحيحين بمساجدها، وبعد عودته من مصر استقر بمدينة طنجة خطيبًا بالزاوية الصديقية، ومدرسًا للعلوم الشرعية بها، وأخذ عنه العدد الجم من طلبة العلم، ولم يبق قطر إسلامي إلا وله فيه تلامذة.

- التقينا معه في المدينة المنورة وفي مصر المحروسة أيضًا، وقرأنا عليه شيئا من العلوم هنا وهناك ، وقد اختص الله الفقير بأن قرأ عليه في المدينة المنورة بعضا من حاشية الملوي على شرح السُّلَّم في علم المنطق ، وهذا شيء من القاسم المشترك الذي يجمعني بسيدنا الشيخ عبد الله وسيدنا الشيخ علي جمعة ، الذي قرأت على فضيلته أيضا في المدينة المنورة شيئا من شرح منهاج الإمام النووي في الفقه الشافعي ، ولكن ما زاد مع سيدنا الشيخ علي جمعة أن القراءة كانت بالمسجد النبوي عند الساعة العربية بجوار باب سعود .

هذا وقد كانت بيني وبين سيدنا الشيخ عبد الله الصديق رضي الله عنه مراسلات علمية ، حيث كنت أسأله في مسائل علمية في علوم شتى، وهو  بطنجة في المغرب العربي، وكان يبدأ رسالته في رده على الفقير  بــ (الأستاذ مجدي عاشور)، وأنا ما زلت صغيرًا في مرحلة الطلب؛ ليعلمنا ويربينا على التواضع قبل العلم ومعه وبعده .

- تولى فضيلته الرد على أسئلة القراء وفتاويهم بمجلة الشرق العربي، والتي كانت تصدر بالقاهرة ابتداء من سنة 1947م، وقد شملت الفتاوى معظم ما يحتاجه المسلم من أمور دينه وعبادته، وقد جُمعت هذه الفتاوى بعد ذلك وطبعت، باسم " الحاوي في فتاوي الشيخ عبد الله الغماري ".

- وقد امتازت فتاوي الشيخ رحمه الله تعالى بما يدل على فقهه وباعه الطويل في إدراك النصوص الشرعية وفهمها ؛ توثيقا وفهما وتنزيلا على الواقع؛ ويظهر من فقهه هذا تميزه وبراعته في أمور كثيرة؛ منها:

(1) العرض المتقن لأقوال الأئمة رحمهم الله تعالى وآراء السلف الصالح رضوان الله عليهم، كصنيع ابن قدامة في المغني ، وابن رشد في بداية المجتهد ، وزاد عن ذلك بمحاولة الموازنة بينها بما يتماشى مع متطلبات العصر وقضايا الواقع؛ كفتوى العزل (تنظيم النسل).

(2) تصحيح المفاهيم التي غبشتها عقول المتطرفين؛ كفتوى المنع من إقامة الحدود والقصاص بين الأفراد حال غياب الحاكم بالشريعة الإسلامية؛ لما يترتب عليه من انتشار الفوضى واضطراب الأمن العام، وكذلك فتوى الصلاة في المساجد التي بها أضرحة، والتوسل بالصالحين وآل البيت الأكرمين، والتبرك بآثارهم الطيبة، وعمل تمائم الأذكار، والاجتماع على الذكر بصوت عالٍ، وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبره الشريف، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهرًا بعد الأذان، وقراءة القرآن على القبر، والاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ونحو ذلك؛ مما مشت عليه الأمة عبر الأعصار والأمصار قبل انتشار النابتة.

ومن ذلك قوله بأولية خلق سيدنا آدم عليه السلام جسدًا ، أما روحًا وحقيقة، فالأولية لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مستدلًّا بحديث : " إني لنبي وآدم بين الروح والجسد " وحديث : " إني لنبي وآدم منجدل في طينته " . (انظر الحاوي في فتاوي الغماري ص ٣٣).

(3) الاختيار الفقهي؛ كما في فتوى "تعدد الجمعة في البلد الواحد"؛ كما هو اختيار الفقهاء المتأخرين، ولا يخفى مناسبة هذه الفتوى لهذا العصر، وكذلك فتوى "لمس المرأة الأجنبية بدون شهوة لا ينقض الوضوء"، وفتوى "زخرفة المساجد"، وفتوى "الصلاة على الأولياء والصالحين"، وفتوى "تلقين الميت بعد الدفن" .

ومن ذلك أيضًا ما أورده في كتابه (الحاوي في الفتاوي ص ٥٧) في من مات وعليه صوم ، حيث قال : "وأما المسألة السادسة : فإن الحديث فيها يدل على أن الشخص إذا مات وعليه صوم فرض كرمضان أو نذر فإن وليه يصومه عنه ، وبهذا أخذ أهل الحديث وأبو ثور والأوزاعي وجعفر الصادق والليث بن سعد وغيرهم ، وقال أحمد بـن حنبـل وإسحاق بن راهويه : يصوم الولي عن الميت النذر دون رمضان ، وقال أبو حنيفـة ومالك والشافعي في أحد قوليه : لا يصوم الولي عن الميـت لا نـذرا ولا غيـره ،  والصحيح الأول ، ثم ذهب جمهور القائلين بصوم الولي عن الميت إلى أن الصـوم ليس بواجب، بل يندب فقط ، وحكى إمام الحرمين الإجماع عليه وهو غلط ، بل ذهب الظاهرية إلى أن صوم الولي عن الميت واجب سواء أوصى به الميت أو لا ، وأيد ابن حزم ذلك ، والحديث المذكور يؤيد الوجوب أيضا" .

(4) مراعاة الواقع ومتطلبات العصر وحاجاته: كما في فتوى "إباحة الصور الفوتوغرافية"، وفتوى "الإعلام بوفاة الميت في الجرائد"، ونحو ذلك.

إن المقام الآن لا يتحمل أكثر من هذا، وإلا لو كتبت عن سيدي الشيخ عبد الله الصديق الغماري، كفقيهٍ وأصولي يؤصل ويختار ويرجِّح، لاحتجت وقتًا ليس بالقليل، ولكان الناتج مجلدًا كبيرا، ولكن هذه نبذة من متعجل، ومع ذلك تنبئ كم كان الشيخ عالمًا بل علَّامة متبحرا في علوم الشريعة وعلوم الآلة على حدٍّ سواء، قَلَّ أن يجود الزمان بمثله، رضي الله عنه ونفعنا به وبعلومه في الدارين .. آمين .