
سلسلة خواطر حول أسماء الله الحسنى (3)
د. مجدي عاشور(الله) سبحانه وتعالى هو الواحد واجب الوجود، واللفظ الدال على الواحد الواجب الوجود هو لفظ الجلالة (الله) مفتاح كل شيء، ومانع كلِّ شر، لفظ الجلالة (الله) يحقق لك مطلوبك ومرغوبك، لفظ الجلالة (الله) يفك لك كلَّ كروبك، لفظ الجلالة (الله) يجعلك في العناية والرعاية وفي الحماية وفي الوقاية.
كلنا مقصرون، فأهل الله يقولون لو اكتفينا فقط بكلمة الله لأغنتنا، ولكن نظرًا لقصورنا ولعدم فهمنا كما ينبغي أن يكون الفهم ما استخدمنا اللفظ حق استخدامه وما تعلقنا به حق التعلق..
لفظ الجلالة (الله) للتعلق وليس للتخلق ولا التحقق، وألفاظ أسماء الله الحسنى الباقية فهي للتعلق والتحقق والتخلق، فإن كان لفظُ الجلالة (الله) للتعلق فقط، وسائرُ الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلَى للتعلق والتحقق والتخلق فهذا يعني أن فيها زيادةً والزيادةُ فيها إفادة، فهل هذا يعني أن سائرَ الأسماء والصفات أفضلُ من لفظ الجلالة (الله)؟
لا هذا غير صحيح، بل هذا رحمة بك وراحة لك؛ لأنه ما معنى التخلق؟
التَخَلُّق: يعنى أنك تحاول أن تعمل بمتعلقات هذه الأسماء؛ فالنافع أي تنفع الخلق أجمعين، والقوي أي تصير قويًّا في كل حق، والوهاب أن تهَبَ الجميع وتعطيَهم، والعفوُّ أن تعفو عن الخلق أجمعين وعن كل من ظلمك، وهذا فيه من الجهد والصعوبة مما لا يخفى، فالتحقق فيه تعبٌ ونصَبٌ لأنك تحاول أن يكون فيك شيء من هذه الصفات على قدر مخلوقيتك لأنها صفاتُ الباري - سبحانه وتعالى-.
أما التحقُّق: هو أن تكون هذه الصفاتُ متمكنةً منك وراسخةً فيك فأصبحت متحقَّقَةً فيك، يعنى ثابتةً وواجبةً، أوجبتها على نفسك فصارت سجيةً لك، مثل سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمةٌ مهداةٌ دائمًا في أي وقت، فهو متحقق من الرحمة، متحقق أشد التحقق وليس متخلقًا فقط.
فإذا وصلت لمرحلة عالية وناديته باسمه المفرد (الله) فحينها لا يريد منك تخلقًا ولا تحققًا، بل يحتاج تعلقًا، وحينما تتعلق بها كأن الله تعالى يقول لك: أنا سأجمِّلُك بالتخلق وبالتحقق؛ لأن لفظ الجلالة (الله) يشمل جميع الأسماء والصفات، فلو أنك ذبتَ فى هذا الاسمِ ذوبانًا لجعلك متخلقًا ومتحققًا ببقية الأسماء، فعلى قدر تعلقك بلفظ الجلالة (الله) وشدة تعلقك على قدر ما يغنيك من التخلق والتحقق ببقية الأسماء والصفات، لذا إن نظرنا إلى لفظ الجلالة بهذا الفهم عرفنا مدى التميز الذي يمتاز به لفظ الجلالة (الله)؛ لذلك حينما تتعامل مع أحد ما ويسمع شيئًا طيبًا أو غير طيب فلا تجده يقول مثلًا: الصبور أو الرحمن بل تسمعه يقول (الله).
اعلموا أن أعظمَ فتنةٍ هي فتنةُ قيامِ الساعة برغم كل الكوارث التي نمر بها من زلازل، وتضخم اقتصادي، وأزمة الدولار، وكورونا، وحروب الدول، لكن هذه الفتن لا شيء بالنسبة لقيام الساعة وعلامات يوم القيامة، والذي سينقذنا من علامات يوم القيامة هو لفظ الجلالة (الله الله)، ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم : "لا تُقام الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله الله" (رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو يعلى والحاكم وابن حبان وعدي عن أنس رضي الله عنه).
أي لن يكون هناك مخلوق واحد يقول (الله الله)، فالمقصود أنهم سينكرون وجود الله وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كررها للتأكيد حتى لا تُقال (الله) مفردة؛ أي حتى ينتهي الذاكرون الذين يقولون (الله الله).
لذا حينما نذكر (الله) يستحب أن نذكر فنقول (الله الله) تطبيقًا لكلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وللتحقق بمعنى الحديث فما التكرار للفظ الجلالة إلا لنعلم أن المقصود أن الذاكرين هم أمنة الله في أرضه، بهم يحفظ الله البلاد والعباد، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"مهلا عن الله مهلا، لولا شبابٌ خشَّع، وشيوخ ركَّع، وأطفال رُضَّع، وبهائم رُتَّع، لصُبَّ عليكم العذابُ صَبًّا". ( رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده).
لأنه طالما أن هناك ذكرًا إذن فأنت في معية الله قال تعالى:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة 152]، فكيف ستكون في فتنة أو كارثة وأنت في معيته سبحانه وتعالى؟!، لذلك حتى ينفذ مراد الله تعالى لا بد من عدم بقاء أهل معيته الأُوَل وهم الذاكرون، ثم بعد ذلك تقوم الساعة على شرار الخلق كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
فكل فتنةٍ دون القيامة فهي قليلة، وكل هم وغم وكرب دون أشراط الساعة لا شيء، وأشراط الساعة تُمنَع بــ (الله الله) فما بالك بأية فتنة أخرى، فلو كان لك ابن عاق، أو زوجة غير صالحة، أو حسد أو سحر، يستحيل أن يكون قد سُحِر لك وأنت تذكر الله فإياك أن تحقرَ عظيمًا أو تعظم حقيرًا، قال تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا).[النساء 76].
فاذكر دائمًا وقل (الله الله)، بل الأعجب من ذلك أنه من كان هذا حاله حتى في حال موته سيكون أمْنًا لمن سينزل عليهم في القبر سيكون أمانًا لهم كما كان أمانًا لأهل الأرض، ليس الصالح منهم فقط بل والطالح أيضًا فما ظنك بالذين لا يفعلون شيئًا في القبور ستكون أمانًا لهم لو أنك أكثرت من ذكر الله، فالذاكرون هم الواصلون، الذاكرون هم الموصلون، الذاكرون هم المنوَّرون، ينورون لأنفسهم ولغيرهم.
إذن يا من تريد أن يُفتح لك كلُّ خير ويغلق عنك كل شر، عليك أن تكرر من لفظ الجلالة (الله الله)، أقلُّ شيءٍ مرتين لأن هذا التكرار صار علامة على أولياء الله الصالحين حتى يظن الآخرون أنه مجنون، والجنون هنا ليس معناه ذهاب العقل ولكن معناه الانشغال بالله وحده سبحانه وتعالى دون سواه ويقولون عنه إنه مجنون، لأن المنشغلين عن ذكر الله يرون أنفسهم ودنياهم أكبر وجزاء الله عندهم قليل، أما الولي الصالح يوقفهم على الحقيقة؛ وهى أن الله كلُّ شيء وأنتم منشغلون عن كل شيء بلا شيء، إذن فمن المجنون؟!
نصيحة :
إذا أردت الارتفاع والخلود فعليك أن تنتسب لمن كُتب له الارتفاع والخلود وما ذلك إلا لله ولكتاب الله وبجعل الله لمولانا رسول الله؛ حيث قال تعالى في حق حضرته: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [ الشرح 4]، حينما ترى شيئًا جميلًا قل: الله الله، حينما ترى شيئًا عجيبًا قل: الله الله، حتى حينما ترى شيئًا فيه شدة وصعوبة قل: الله الله؛ لأن الله هو الذي سيمنعها.
جاء في صفوة الصفوة لابن الجوزي 2/235:
في زمن مالك ابن دينار- ت123هـ - الإمام العابد الكبير وكان من كبار الزُّهاد والأولياء، الذي كان يكثر الجلوس في بيته فقيل له ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلي الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وكان معه كثير من الأولياء كعطاء السليمي، وثابت البناني، ومحمد بن واسع، وحبيب الفارسي، وصالح المرب وغيرهم، ومع وجود كل هذه الصفات والخصال في ابن المبارك التي تجعله في مصافِّ أولياء الله الصالحين، فإننا نراه في قصة توضح لنا تواضع العلماء وإيمانهم السلوكي الذي يتعدى القول إلى الفعل من خلال القصة التالية: فعن مالك بن دينار قال: احتبسَ علينا المطرُ بالبصرة فخرجنا يوماً بعد يوم نستسقي فلم نر أثراً لإجابة، فخرجت أنا وعطاء السليمي وثابت البناني ومحمد بن واسع وحبيب الفارسي وصالح المرب وآخرون، حتى صرنا إلى المصلَّى بالبصرة فاستسقينا فلم نر أثراً لإجابة، وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت في المصلى، فلما أظلم الليل فإذا بأسود دقيق الساقين عظيم البطن عليه مئزران من صوف، فجاء إلى ماء فتوضأ ثم صلى ركعتين خفيفتين ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: سيدي إلى كم ترد عبادك فيما لا ينقصك، أنَفَد ما عندك؟ أقسمت عليك بحبك لي إلا ما سقيتنا غيثك الساعة الساعة.
فما أتم الكلام حتى تغيمت السماء وأخذتنا كأفواه القِرب فما خرجنا حتى خضنا الماء، فتعجبنا من الأسود فتعرضت له فقلت: أما تستحيي ما قلت؟ قال: وما قلت؟ قلت قولك: بحبك لي، وما يدريك أنه يحبك؟ قال: تنحّ عن همتي يا من اشتغل عنه بنفسه، أين كنت أنا حين خصني بتوحيده ومعرفته؟ أتراه بدأني بذلك إلا لمحبته لي؟ ثم بادر يسعى، فقلت: ارفق بنا، قال: أنا مملوك علي فرض من طاعة مالكي الصغير. فدخل دار نحاس....."والقصة طويلة.
فالشاهد من القصة السابقة أنه والله لو علم ما في قلبك من تعلق لأعطاك ما تريد وفوق ما تريد قبل أن تسأله وقبل أن تطلب منه، إذ كيف تنشغل به وتنشغل بمرادك وهو قد علم بمرادك قبل أن تطلب مرادك، فذاك العبد هو عبد رباني ممن يقولون (الله الله).
ورَاعِ مَن يقول (الله الله) خاصة من أصحاب القلوب النقية؛ لأنه يقول (الله الله) في الأرضِ، والسماءُ كلُّها معه لأنه في معية الله عز وجل؛ لذا بعد ذلك نقول (الله الله) تشبهًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.