
تعلم من الله
مصطفى حسنيتعلم من الله
كيف تحمي علاقاتك من الانهيار؟
في بعض العلوم الحديثة يَذكرُ الخُبراء أنَّ العلاقات المُستقرة السويَّة قائمة على ثلاثة أضلاع، فالعلاقات المستقرة، كأنها مُثلثٌ؛
الضلع الأول: الأمان. والثاني: الاحترام. والثالث: القيام بالمسؤوليات المُتبادلة.
وكلُّ ضلع مِن هذه الأضلاع إذا انهار؛ انهار معه جزء مهم في استقرار العلاقة، وتتحول غالبا إلى عبءٍ وأذى على أطرافها.
وإذا أردت أن تفهم المعنى أكثر، تصور معي أن ركن الأمان انهار، فسيظهر ضده، فالأمان ضده الخوف وسيحدث في نفس الطرف الخائف توقع التخلي أو الخيانة، والاحترام ضده التحقير والإهانة، وسيفقد الطرف الآخر أهم ما يميزه وهو الإنسانية، والمسؤولية ضدها الإهمال والتخاذل، ويفقد الطرف الآخر الدفء والسكينة، وهو ما نسميه في مجتمعنا بـ " السند"،
و الحقيقة أن أطول علاقة وأكثرها استقرارا وصحة على نفسية الإنسان علاقة العبد بربه الله الباقي سبحانه، الباقي على العلاقة مع عبده الذي اشترى ودَّ العباد واشتري حُبَّهم، وظهر تجلي أسمائه الحسنى عليهم، فهو سبحانه الحفيظ يحفظ قلوب أحبابه، المبدئ الذي يفعل لعباده دائما كل خير فلا ينتظر من عبادة أي شيء، بل عطاؤه سابق ودائم.
فإذا أردت حياة مستقرة في بيتك، مع شريك الحياة، أو مع أعز صديق لك، فتعبد إلى الله باسمه الباقي، وانظر لطفه ومدده فيك، وتعلم بقاء العلاقة من ربك، وأنه يعطيك ويمدك، مع أنه غني عنك.
أما ضلع الأمان، فالله هو: المؤمن، فترى تجليات هذا الاسم وتتعبد لله به، فتشعر بالأمان، ويكون لسان حالك: أعلم على وجه اليقين أنه من أمن بك، لا خوف عليه ولا حزن، وأن من أمن بك أمن معه كل الخلق.
وتحدث نفسك قائلا: أنا أعصيه بالليل، وهو يبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل، يدعوني للتوبة ومصالحة النفس، ثم أصرُّ وأعصيه بالنهار فلا يأتي ليلي إلا وقد بسط يده بالليل؛ ليتوب علي، تتنزل رحمته ومغفرته في الثلث الأخير من الليل؛ وينادي على العباد: هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ هل من سائل؟
نعم هو : المؤمن، أمن عباده به، وطمعوا في رحمته، فأنت مع معصيتك يقبل توبتك، فهو باق لك في هذه العلاقة؛ ليشعر العبد دائما بالأمان.
وها هنا حديث فيه إشارة مهمة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أوصانا بعدم تطويل فترات الخصام حتى لا يشعر من يحبني بعدم الأمان في الوصل معي، فقال: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ, فَيُعْرِضُ هَذَا، ويُعْرِضُ هَذَا، وخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
تأمل معي: يبدأ بالسلام، الذي تعلمه من الله الذي يبدأ دائما بالسلام
أما الضلع الثاني، فهو الاحترام، الذي تنهار العلاقات بلا شك إذا اختفى؛ لتحل محله الإهانه والاعتداء والتحقير، ولن ترى ذلك أبدا من ربك، بل يخاطب أسوأ الناس حالا وأبعدهم عنه وأكثرهم اعتداء على حرماته وأوامره بأجمل العبارات، وأحسنها : "قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله "، وهذا تشريف:
ومـما زادني شـرفـاً وتـيــهـاً
وكدت بأخمصي أطأ الـثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن صـيَّرت أحمد لي نـبيـا
وهل هناك تكريم أكثر من ذلك لعبد عاصٍ لله، فما بالك بتكريمه وتقديره للطائعين، وإقباله عليهم بوجهه الكريم في صلواتهم وقبوله منهم القليل من صدقاتهم، قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
وقد ورد عن أكثر من واحد مِن الصحابة تعطيره للدنانير وإعطاؤه الصدقة للفقير بتواضع وإجلال، فلما سُئل قال: "لأنها تسقط في يد الله أولا"، وهنا الإجلال والتقدير.
وهنا يجب أن تتجلى عليك آثار اسم الله المؤمن، فيأمن معك شريك حياتك، بالكلمة الراقية والنظرة المملوءة بالتقدير والاحترام، مع صدق في المحبة، تتماسك العلاقة أمام أعتى الخلافات، ولن تتعلم ذلك مثلما تتعلمه من ربك في علاقتك معه.
أما الضلع الثالث، فهو المسؤوليات المتبادلة، وهنا نقف عند المقام الرباني الذي ليس كمثله شيء ولا نقول الله مسؤول عن شيء تجاهنا فهو "لا يسأل عما يفعل" وكل أفعاله معنا محض فضل وكرم منه، ولكن خذ العبرة من تدبيره وتوليه لشؤونك دون أن تطلب منه، بل هو المبدئ المتولي توفير ما يصلح أحوالك من المصالح والأرزاق التي لا تخطر على بالك أصلا "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)" تولي شؤونك وسخر لك السماوات والأرض وفتح لك أبواب الرزق وكان دائما معك أينما كنت، لو قطع عنك مدده هلكت وليس هذا فقط، بل تعجب من كم المدد والتيسير الذي ينزل عليك دون دعاء منك.
وهنا يمكن أن نأخذ الاعتبار، فنقول: إذا اردت استمرار علاقتك الزوجية أو مع الأصحاب، فقم بما عليك من مسؤوليات دون استجداء من الطرف الآخر، بل كن مبادرا بها سباقا بالعطاء قائما بما عليك، وهذا يشعر شريكك بالأمان الكامل والتقدير منك، حتى تكبر في عينه، ويعتمد عليك ويرى أثرك في كل جوانب حياته.
تعلّم كل ذلك من ربك الذي ترى أثر إكرامه ومدده في كل جوانب حياتك.