السنة الخامسة ذو الحجة 1446 هـ - يونية 2025 م


د. مصطفى الهلباوي
تفسير قلوب العارفين لإشارات القرآن الكريم
د. مصطفى الهلباوي

من شباب الصديقيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

قدر الله للفقير أن تكون رساله الماجستير في تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي والمقارنة بينه وبين عدد من كتب التفاسير في قضية من أهم قضايا أصول الفقه وهي قضية المجمل والمبين إلا أنه أثناء الدراسة كانت تستوقفني قضية أخرى وباب آخر من أبواب هذا العلم الجليل -أعني علم التفسير– وهو باب التفسير بالإشارة أو التفسير الإشاري أو الفيضي وإن شئت عزيزي القارئ أن تسميه -كما يسميه غالب أهل التفسير- التفسير الصوفي للقرآن الكريم، إلا أنني أُفضِّل تسميةً تعلق بها قلبي لم أقع عليها في كتاب من كتب التفاسير وهي "تفسير قلوب العارفين لإشارات القرآن الكريم" وسبب ميل قلبي لهذه التسمية أن مفاتيح إشارات القرآن الكريم لا يهبها الله لأي أحد بل يخص بها قلب من عرف الواحد الأحد.

وتعالَ معي عزيزي القارئ ليستمتع قلبك وعقلك في آن واحد وأنت تقرأ في السطور القادمة هذا التفسير الذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي لقول الله تعالى ﴿والذين آمنوا أشد حبًّا لله ﴾ [سورة البقرة: 165] وهو يصف لنا حال العارفين حينما يستغرقون في حب الله

يقول قدس الله سره (العبد إذا كثرت مطالعته لدقائق حكمة الله تعالى، كثر ترقيه في مقام محبة الله، فإذا كثر ذلك صار ذلك سببًا لاستيلاء حب الله تعالى على قلب العبد، وغوصه فيه على مثال القطرات النازلة من الماء على الصخرة الصماء فإنها مع لطافتها تثقب الحجارة الصلدة فإذا غاصت محبة الله في القلب تكيف القلب بكيفيتها، واشتد ألفه بها وكلما كان ذلك الألف أشد كان النفرة عما سواه أشد لأن الالتفات إلى ما عداه يشغله عن الالتفات إليه والمانع عن حضور المحبوب مكروه فلا تزال تتعاقب محبة الله، ونفرته عما سواه على القلب، ويشتد كل واحد منهما بالآخر، إلى أن يصير القلب نفورًا عما سوى الله تعالى، والنفرة توجب الإعراض عما سوى الله، والإعراض يوجب الفناء عما سوى الله تعالى فيصير ذلك القلب مستنيرًا بأنوار القدس، مستضيئًا بأضواء عالم العصمة فانيًا عن الحظوظ المتعلقة بعالم الحدوث وهذا المقام أعلى الدرجات، وليس له في هذا العالم مثال إلا العشق الشديد على أي شيء كان فإنك ترى من التجار المشغوفين بتحصيل المال من نسي جوعه وطعامه وشرابه عند استغراقه في حفظ المال فإذا عقل ذلك في ذلك المقام الخسيس فكيف يستبعد ذلك عند مطالعة جلال الحضرة الصمدية؟!) مفاتيح الغيب (4/177)

قصدت أن أنقل لك الفقرة بتمامها دون اقتصاصها حتى يطرق قلبك هذا المعنى الجليل الموجود في ثنايا هذا النوع من أنواع التفاسير وهو معنى الفيض الإلهي الذي يجريه الله على ألسنة وأقلام بعض عباده العارفين به الغارقين في حبه

هذا اللون البديع من ألوان التفاسير تجد أن قلوب العارفين قد تنوعت في تناوله والحديث عنه، فتجده مثلًا في كتاب الإمام القشيري لطائف الإشارات، وكتاب عرائس البيان في حقائق القرآن للشيرازي، وتفسير الإمام الأكبر والكبريت الأحمر ابن عربي، وروح المعاني للإمام الألوسي وغيرهم ــ قدس الله أرواحهم جميعا- قد تناولوا هذا اللون.إلا أننا وللأسف الشديد وجدنا في عصرنا الحاضر من يغمز ويلمز في هذا التفسير وأصحابه ويخلطون بين التفسير الصوفي الصحيح الموافق لقواعد تفسير القرآن وبين التفسير الباطني المخالف لهذه القواعد مثل تفاسير بعض طوائف الشيعة

 لذلك استخرت الله تبارك وتعالى وطلبت الإذن والمدد من سيدي وشيخي سماحة الدكتور/ مجدي عاشور _ حفظه الله_  لتناول هذا النوع من أنواع التفسير في سلسلة مقالات لتوضيحه بأسلوب سهل مبسط يسهل على غير المتخصص فهمها وهضمها.

فما تعريف التفسير الصوفي أو الفيضي؟ وما الفرق بينه وبين التفسير الباطني؟ وكيف تناولت قلوب العارفين هذا الفيض الإلهي؟ وما هي القواعد الحاكمة لهذا التفسير؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم بمشيئة الله تعالى وتوفيقه.