السنة الأولى جمادى الآخرة 1443 هـ - يناير 2022 م


كرم بهنسي
أثر الشيخ عبد الله الغماري على مولانا الشيخ علي جمعة
كرم بهنسي

الحمدُ لله المتفضل بالنعم أولاً وأخراً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد:

فقد تأثر وتتلمذ العلامة الجليل، والفقيه الأصولي، الصوفي، المتفنن، مولانا نور الدين والدنيا  أبو الحسن على بن جمعة  رضي الله عنه على يد زمرة من أهل العلم والفضل والكشف والبيان، وقد أفاد منهم أشد الإفادة وأخذ عنهم الصفات الحميدة، والعلوم الشرعية المفيدة، والتوجيهات السديدة، والأخلاق الرشيدة، فكان لذلك أكبر الأثر في حياته، وكان صاحب الأثر الأكبر في تكوينه العلمي والروحاني هو سراج ونور هذه الأمة في عقودها الأخيرة، الإمام الحجة الفقيه الأصولي المحدث سيدي أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني الإدرسي الطنجي، فهو رحمه الله عالماً قل أن يضاهى في العلوم الشرعية، واللغوية، والمنطق، محيطاً بدقائقها ومستحضراً للنصوص وأقوال العلماء وحججهم في المسائل المختلفة، مع سعة الاطلاع على أدلة المذاهب الفقهية الإسلامية والعقائدية ، وكان سيدنا الشيخ علي جمعه حفظه الله  موضع نظر شيخه لما راء فيه من مخايل النجابة والجد والتقى، فكان من أقواله رحمه الله عن تلميذه النجيب الأريب "الشيخ علي جمعة أمة وحده ومات من مات من شيوخ الوقت ممن أدركتهم وهم عنه راضون، وهذا من علامات التوفيق".

 وقد ارتبط الشيخ وتأثر بشيخه الغماري في شتى ضروب الحياه حتى صار مثلاً يحتذى به في كل ميادينها،  فتأثر رضي الله عنه بشيخه في باب العلم والمعرفة وكثرة الاطلاع، فلقد أوتي سيدنا الشيخ علي جمعة قلماً سيالاً يدل على غزارة علمه، فكتب في علوم شتى، فله من المؤلفات فوق السبعين مؤلفاً، وأبرزها في علوم الشَّريعة والتصوف، فقد عاش الشيخ زمنا كبيراً يتلقى العلم على عدد كبير من مشايخ الأزهر في مصر وسائر البلاد الإسلامية، وروى بالسند المتصل العلوم والفنون الشرعية واللغوية المختلفة، فقد ذكر الشيح أسامة الأزهري في كتابه " أسانيد المصريين" أن الشيخ علي جمعة تأثر وتعلم وقرأ على شيخة الغماري: (اللمع) لأبى إسحاق الشيرازى، وصحيح البخاري كاملاً، وشمائل الترمذي، والأربعين النووية، والأوائل السنبلية و(موطأ مالك) وغيرها من المؤلفات والكتب ، فترى من سعة إطلاع الشيخ، وتأثره بشيخه أنه على معرفة بمظان المسائل العجب العجاب، والأعجب من ذلك كله أنه يتغلغل في المبحث العلمي الدقيق، فلا يزال به حتى ينزله على الفكر المعاصر، والنوازل المستجدة، فنتعلم منه كيف يدرس الواقع على ضوء القواعد، وله في ذلك التفرد الذى لا يلاحقه فيه أحد من المعاصرين، وكما سمعناه يقول: (أنا لا أريدكم أن تحفظوا كلام الصحابة فقط، بل أريدكم أن تعيشوا في عصركم كما عاش الصحابة في عصرهم، حتى تقوموا بواجب وقتكم كما قاموا بواجب وقتهم".

 والشيخان رضي الله عنهما" سيدي عبدالله الغماري، وسيدي علي جمعة" أحيا الله تعالى بهما العلم وحلقاته في الأزهر الشريف، فقد عمَّر الله تعالى بالشيخ الغماري الأزهر الشريف، عمَّره بعلومه ودروسه، وجدد الله تعالى به عهد الأكابر من علماء الأزهر وشيوخ الإسلام، فكان رضي الله عنه يجلس في الرواق العباسي، يدرس فيه" جمع الجوامع" فدرسه في أربع سنين ٌقرأه مرتين، وغيره من الكتب والمؤلفات، فتتلمذ له الكثير من علماء الأزهر الشريف، وسار على دربه وتأثر به مولانا الشيخ على جمعة ، فقام ينافح ويدرس بين جنبات وأروقة، وأعمدة الأزهر الشريف العلوم الشرعية فذكر ذلك في كلمات موجزات الشيخ أسامة الأزهري عن شيخه قائلاً": وقد أحيا الله تعالى به العلم وحلقاته في الأزهر الشريف بعد طول موات، وعادت تقرأ فيه عيون الكتب حديثاً، وفقهاً، وأصولاً، وعربية، ومعقولاً على عدد من العلماء على نحو كان قد انقطع منذ زمن، فأقرأ صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبى داود، وسنن الترمذي، وموطأ مالك، وقطعة من سنن النسائي، والشفا للقاضي عياض، وتشنيف المسامع للزركشي على جمع الجوامع للتاج السبكي في أصول الفقه، وابن عقيل على الألفية في النحو، ، ومتن الخريدة في علم الكلام، والإقناع للخطيب الشربيني والباجوري على حاشيته ابن قاسم في فقه السادة الشافعية، والأشباه والنظائر للسيوطي، والتمهيدي للإسناوي وقطعة من الكشاف للزمخشري، كما كان له درس في مسجد السلطان حسن عقب صلاة الجمعة من كل أسبوع، فأقرأ فيه ابن قاسم على متن أبى شجاع، وغيرها، وكان رضى الله عنه يأتي إلى الأزهر الشريف عقب الشروق بقليل، فيجلس نحواً من ثلاث ساعات أو يزيد، فيتحلق طلاب العلم من الأقطار المختلفة، حتى يمتلئ بهم رواق الأتراك، وتوضع بين يدية في المجلس مبخرة يفوح منها الطيب والبخور، فكان المجلس روضه من رياض الجنة، ثم يشرع القارئ في قراءة مجلس الحديث، وبعده مجلس الاصول، وبعده حظ من الفقه، وبعدها قراءات أخرى في فنون مختلفة، مختاره من الشفا للقاضي عياض، وتارة من الكشاف للزمخشري، والشيخ في كل ذلك يسمع، فإذا عرضت مسألة أو قضية أو مبحث، أو استشكل أحد شيئا شرع الشيخ في الكلام، فيأتي بالتدقيقات الباهرة، والمفاهيم الدقيقة، مستعملاً الأدوات العلمية من أصول ومنطق ولغة، ثم إنه يأذن لطلبة بالسؤال والمباحثة، فلا تزال تنفتح البحوث والمسائل، ولربما شارك في النقاش غير واحد، الشيخ يرقب نقاشهم، ثم يعقب على الجميع، فيأتي بما لا يخطر لهم على بال، ولربما احتاج الأمر إلى اجتلاب النصوص من الحواشي والمطولات، ومن باب أخر تأثر مولانا الشيخ علي جمعة حفظه الله بأخلاق شيخه الغماري، الذي كان عالماً متواضعاً ليناً سمحاً، فتعددت هذه الفضائل والمكارم وتأثر بها الشيخ علي جمعة فكل من جالس الشيخ علي جمعة أو تعامل معه، يجده سمحاً متواضعاً شفوقاً، فلم يحل الشيخ في مكان إلا وتعلقت به القلوب والتفَّ حوله العام والخاص، وتأثر به في مصر وخارجها، وأصبح اسم الشيخ محل ثقة لدى الجميع بمكانته وعلمه وفضله وجوده وكرمه، فالشيخ يسمع للصغير والكبير والقاصي والداني، وهو لطلابه أب شفوق ومعلم صارم ومربٍ مصلح، أثر في حياتهم العلمية والدعوية، وهو له الأيادي البيضاء في افتتاح كثير من المشروعات الخدمية والدعوية، ومساعدة عدد كبير من طلاب العلم مادياً ومعنوياً في السر والخفاء، وطفي على الشيخ الناحية الروحية الواضحة، فتزكية النفس غايته، وإدراك رضا الله ورسوله هدفه، فهو متواضعٌ، رحيمٌ، نقي الصدر نقاء الثلج، خاشعٌ، رقيق القلب، سليم الصدر، فإن من التزم الشيخ وتعلم وجالسه في مجلسه يجزم أن الشيخ يحيا في عالم من أحبهم قلبه وتعلق بهم من السيد الأكرم ــ صلى الله عليه وسلم، وقد تأثر مولانا نور الدين والدنيا بشيخه الغماري رضي الله عنه في علم التزكية والأخلاق، فقد أنشأ الشيخ علي جمعة الطريقة الصديقية الشاذلية، امتداد لشيخة سيدي عبد الله بن الصديق الغماري، التي يتصل سند هذه الطريقة العلمي والروحاني إلى سيدي أبو الحسن الشاذلي، فهي طريقة صوفية سنية، تهدف إلى التربية الدينية والروحية بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، وقد تأثر الشيخ علي جمعة بشيخه في باب السلوك مبيناً أن التصوف عندنا مقيد بالكتاب والسنة، وما عدا ذلك فليس من التصوف في شيء، والتصوف الإسلامي جزء أساسي في التراث الإسلامي فوجب العناية به، والذبّ عنه ورد الشبهات التي يثيرها المبطلون بالحجة والبرهان، خاصة شبهات المعاصرين التي سلوا فيها أقلامهم بالعدوان والتشكيك والتلبيس.

 وقد تعرض التصوف لحملة واسعة منظمة تهدف إلى إثارة الغبار حوله بإثارة دعاوى بعض المتشددين بأنه لا أصْل له من القرآن والسنة، مع أنَّ هذا المنهج يستمد أصوله وفروعه من القرآن والسنة النَّبَويِّة واجتهاد العلماء فجعلوه عِلماً سموه بـعلم التصوف، أو علم التزكية، أو علم الأخلاق، فألفوا فيه الكتب الكثيرة بينَّوا فيها أصوله وفروعه وقواعده، ومن هؤلاء العلماء، الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله وغيره ممن صار علي هذا الطريق القويم وتصدى للمعارضين المنكرين للتصوف والمتشددين في الدين، فتأثر مولانا الشيخ علي جمعة حفظه الله بشيخه رحمه الله، حيث أحيا الله به وعلي يديه التصوف الحق المقيد بالقرآن والسُّنَّة، فبين المنهج الحق وانتصر على المخالفين والمنكرين للتصوف بآرائه، وحججه القويمة مستنداً في انتصاراته إلى القرآن الكريم، والسنة النَّبَويِّة المطهرة، وسار علي نهج السلف والخلف فقعد وأسَّس لهذا العلم حتى لا يدخله مَن ليس أهلًا له، فيفسد أكثر مما يصلح، ورأى أن أعداء التصوف يهاجمونه بمنهجية منسقة واضحة المعالم، فقام بالرد على شبهاتهم وإنكارهم للتصوف بما فيه من آداب وقواعد، ومسائل، وفروع فرضي الله عنهم وأرضاهم ونفعنا بعلومهم في الدارين آمين آمين.