
تصحيح الحديث بالكشف عند الصوفية وموقف المحدثين منه
الشيخ. محمد يحي عبد النعيمأولًا: مكانة الحديث النبوى عند الصوفية:
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن معاوية بن أبى سفيان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك".
وقد اختلف أهل العلم فى المراد بهذه الطائفة، فمن قائلٍ: هُم المحدثون خاصة، ومن قائل: هم أهل السنة والجماعة، وقال جماعة من أهل العلم: "هم الصوفية".
والحقيقة أن هذه الأقوال لا تناقض بينها، فهي من قبيل اختلاف العبارات لا اختلاف الاعتبارات، وهذا الاختلاف من قبيل اختلاف التنوع لا اختلاف تضاد؛ لأن هذه الطائفة هم العلماء المجتهدون المحدثون الصوفية أهل السنة والجماعة بمجموعهم، كما حقق ذلك السيد عبد الله بن الصديق فى "الأجوبة الصارفة لإشكال حديث الطائفة" حيث قال: "إن العالم على الحقيقة والعرف والاصطلاح، هو الذى يعرف الحق بدليله، وذلك لا يكون إلا مع الاجتهاد، وهو لا يتصور إلا بمعرفة الحديث، ولا يكون من جمع هذه الشروط كلها إلا من أهل السنة والجماعة؛ لأنه ليس فى القرآن والحديث إلا الحق الذى هو المقصود بمذهب أهل السنة والجماعة، ومن جمع هذه الشروط كلها فهو الصوفي؛ لأن الصوفي هو العالم العامل بعلمه على وجه الإخلاص، وتتمثل ثمرة الإخلاص في ما يجريه الله على يديه مِن كرامات ويظهره له من أنوار ومعارف ".
وإذا كان ذلك كذلك، فإن الصوفية هم الراشدون فى هذه الأمة القائمون بالحق الحاملون لمشاعل النور والهداية فى كل أصقاع الأرض الدَّالون على الله، الباذلون من أجل دينهم النفس والنفيس، وإن دورهم فى خدمة العلم الشريف على العموم والحديث النبوي على الخصوص لا ينكره منصف ولا يجهله محقق.
كيف؟ ومدار الحديث الشريف على الذات المحمدية قولًا وفعلًا وصفات خلقية وخلقية، فهو أدعى لتعلق الصوفية به لما له من تعلق بالمحبوب الأعظم والنبي الأكرم، فهو صلى الله عليه وآله وسلم حياة أرواحهم وشفاء أشباحهم، فالتعلق بحديثه تعلق به، والخدمة لحديثه خدمة لجلالة النبوة على حد قول القائل مما أنشده بعضهم:
لم أسعَ فى طَلب الحديثِ لسمعَةٍ أو لاجتماعِ قديمه وحديثه
لكن إذا فات المحب لقاء من يهوى تعلَّلَ باستماع حديثِه
وليس صحيحًا ما يقال أن التصوف بعيدٌ عَن الهدي المحمدي، وأن الصوفية أكثر الناس انصرافًا عن طلب الحديث النبوي، كيف ذلك؟!! وكتبهم طافحة بضرورة تعلم الحديث ونشره وخدمته بكل الوسائل واعتبار ذلك من أقرب القربات إلى الله تعالى، ألم يقل سيد الطائفة الجنيد البغدادى رحمه الله تعالى: "من لم يحفظ القرآن ويقرأ الحديث، فليس له أن يسلك طريقنا "؟
وقال الإمام القطب الشعرانى فى العهود المحمدية "أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نتهور في رواية الحديث، بل نتثبت فى رواية كل حديث نرويه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نرويه عنه إلا إذا كان لنا به رواية صحيحة......"ثم ختم كلامه بقوله: فتعلّم يا أخي علم الحديث؛ لتخرج من الوقوع فى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو بغير قصد"والله أعلم ا.هـ
بل اعتبر الشيخ الأكبر محى الدين بن العربى أن من لم يتعلم الحديث ليس عالما ولا يحشر فى زمرتهم، ولا يحوز الفضل الوارد في العلم إلا المحدثون حملة علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن عداهم يحشر فى زمرة العوام، فإن كان له عمل صالح تميز به، وإلا فهو من جملة العوام، وهذا ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة * إلا الحديث وعلم الفقه فى الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا * وما سوى ذاك وسواس الشياطين
وفى العصور المتأخرة لمـَّا تخلف الناس عن اعتماد الحديث النبوي والاهتمام به، والعمل بأحكامه، وإهمال الاشتغال به رواية ودراية كان ساداتنا من علماء الصوفية يصدعون ويصدحون في مؤلفاتهم وعلى منابرهم وبين مريديهم بضرورة العودة إلى الحديث النبوي والاشتغال به.
قال السيد الإمام محمد بن عبد الكبير الكتانى رضى الله عنه المستشهد سنة 1327 فى رسالة المؤاخاة: "ومن أسباب انحطاط المسلمين عدم العمل على كتب الحديث في باب التأديب والتهذيب والأخلاق والمعاشرة والرقائق والآداب، وأما الأحكام الحلال أو الحرام، فعلى صحيح المذهب، وكل هذا التوحش جاء الناس من عدم مخالطتهم للورثة المحمد يين العالمين بالله وبأحكامه".
ثانيا : التصحيح بالكشف عند الصوفية:
ومع ذلك كله فإن الصوفية ظلت محل إنكار بعض الجاهلين فرموهم بإتهامات واتخذوهم أغراضا وتلذذوا بأكل لحومهم وادعوا أن الصوفية ليسوا على منهج المحدثين من أهل السنة، وأنهم انفردوا بمسائل لم يعتمدها العلماء وأصَّلوا لقواعد مبتدعة لم يتكلم بها المتقدمون ولم يقبلها المتأخرون، فالمعروف أن قبول الحديث يتحقق بالنظر فى إسناده ومتنه ومعرفة حال رواته.
أما الصوفية فصححوا وضعفوا بالكشف والإلهام والمنامات والتجارب وهو مما لم ينزل الله به سلطانا.
والحقيقة أن الامر يحتاج إلى بعض البيان من أجل دفع هذه الشبهة.
أولًا ما هو الكشف؟
يقول الشريف الجرجاني: الكشف: هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا"، ويعرفه سيدي زروق قائلا: الكشف - في أبسط صوره - هو معرفة الحق، أو اكتشاف الحقيقة، إنه إدراك أن لا حقيقة لشيء غير ( الحقيقة المطلقة )، بعد زوال حجاب الجهل من على البصر.
الشيخ عبد الوهاب الشعراني
يقول : " الكشف : هو إخبار بالأمور على ما هي عليه في نفسها ، لا يتغير دنيا ولا أخرى "
أما مسألة التصحيح بالكشف، فمن الضرورى أن نعلم أن الحكم على الأخبار عن طريق الكشف، هو مبني على أصول اعتمدها الصوفية اختلفوا فيها مع أهل الظاهر كما يسمونهم فقد اعتمد الصوفية عدة مسائل بنوا عليها مذهبهم فى الحكم على الحديث أو الخبر بالكشف وغيره منها:
1 - مسألة رؤية النبى صلى الله عليه وآله وسلم، والاجتماع به يقظة وهي مسألة اختُلِفَ فيها كثيًرا، وقد ألَّفَ في نُصرتها وجوازها عدد من أهل العلم كالإمام السيوطى فى تنوير الحلك وابن مغيزيل فى "النجوم الزاهرة " وشيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في الفتاوي الحديثية وعدد كبير من أهل العلم استنادا إلى حديث مسلم "من رآني فى المنام فسيراني فى اليقظة ".
2 - المسألة الثانية: وهى مسألة عالم المثال والقول فيه وهو عالم بين اليقظة والمنام، فلا هو منام ولا هو يقظة حقيقية يمكن للعارف من خلاله أن يجتمع بأرواح الكُمَّل، وقد أشار إلى ذلك الحافظ السيوطي في عدد من مؤلفاته، وتلميذه الحافظ الشامي محمد بن يوسف الصالحي المتوفى 942 فى سبل الهدى والرشاد، وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف مولانا العلامة الفقيه المحدث السيد إبراهيم حلمي القادرى السكندري الحنفي المتوفى ساجدا فى آخر ركعة من التراويح ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 1390 فى كتاب ماتع سماه "مدارج الحقيقة فى الرابطة عند أهل الطريقة".
3 - المسألة الثالثة أن الحكم على الحديث بالوضع أو الصحة أو غيرهما إنما هو بحسب الظاهر للمحدثين باعتبار الإسناد أو غيره لا باعتبار نفس الأمر، والقطع بجواز أن يكون الصحيح ضعيفا -باعتبار المحدث- أو الضعيف صحيحًا، وقد نصَّ على هذا أهل العلم في مؤلفاتهم كالمقدمة وشروحها والألفية وشروحها، مع اتفاقهم أن المتواتر مطلقا قطعي النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتفاقا، وقد ذكر ذلك العجلونى فى "كشف الخفا" ثم أعقبه بقوله: " قال الشيخ الأكبر : فرب حديث يكون صحيحًا من طريق رواته حصل لهذا المكاشف أنه غير صحيح، فيعلم وصفه ويترك العمل به، وإنْ عَمِل به أهل النقل لصحة نقله، ورب حديث ترك العمل به لضعف طريق يكون صحيحا فى نفس الأمر لسماع المكاشف له" .ا.هـ
وبهذا يتبين أن البون ليس شاسعا بين ما قاله الصوفية وجوزوه وبين ماقرره علماء الحديث.
وقد استخرجت أثناء مطالعاتى مواضع استأنس بها بعض المحدثين في تصحيح الأحاديث وتعديل الرواة بالكشف والمنامات والتجارب، فمما استأنسوا فيه بالكشف، ماذكره الحافظ السخاوى فى القول البديع عن الحافظ رشيد الدين العطار أنه قال فى حديث الطبرانى عن عبد الرحمن بن سمرة "رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاء وضوءه فاستنقذه من النار" وقد جاء الحديث من طريقين ضعيفين، وقال ابن الجوزي: لا يصح.
قال السخاوى وقد ذكر الشيخ العارف أبو ثابت محمد بن عبد الملك الأيلي فى كتابه "مذاهب العرفاء بالله" ما معناه "أن هذا الحديث وإن كان غريبا عند أهل الحديث فهو صحيح لا شك فيه ولا ريب حصل له العلم القطعي بصحته من طريق الكشف في كثير من وقائعه وأحواله" قلت: وإيراد السخاوى لكلام أبي ثابت مع عدم التعقيب عليه فيه إشارة إلى اعتماده.
وليس الكشف فقط بل حتى المنامات فقد ذكر الشوكاني في نيل الأوطار عن السيوطى فى التعقبات قال :"أخرج البيهقي في الشعب عن محمد بن هارون الْفَأْفَاءِ -وكان ثقة صدوقا- قال رأيت فى المنام النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت يا رسول الله حديث علي بن عاصم الذى يرويه عن ابن سوقة: "مَن عزَّى مُصابًا" هو عنك ؟قال: نعم، وكان محمد بن هارون كلما حدث بهذا الحديث بكى.
وكذلك حكموا بالتجربة ومطابقة الواقع؛ قال السيد عبد العزيز الغمارى فى "الأربعين العزيزية "وقد حكم الحفاظ على كثير من أحاديث الضعفاء بالثبوت لمطابقتها الواقع، وهذا معلوم عندهم مقرر فى كتبهم، بل إنهم ربما يعتمدون على التجربة فى ثبوت الخبر وجواز العمل به كما وقع منهم ذلك فى حديث ابن مسعود فى صلاة الحاجة اثنتا عشرة ركعة يصليهنَّ من ليل أو نهار، والحديث رواه الحاكم من طريق البيهقي، وذكر الحاكم أن جمعًا من رواته جربوه فوجدوه حقا قال الحاكم : "وقد جربته فوجدته حقا"، وقال المنذرى فى الترغيب والترهيب بعد أن ضعف سنده :"والاعتماد في هذا على التجربة لا على الإسناد".
وهذا العلم منهم لا شبهة فيه، وهو موافق للمقرر عندهم فى المصطلح وعلوم الحديث.. وهذا طبعا ليس على اطلاقه ولا بمطرد وإلا لحكمنا على كثير من الأحاديث المتفق على ضعفها بالصحة أوالحسن لمطابقتها للواقع وهذا لا يقول به أحد من المحدثين . . وعلى كل حال وسواء اتفقنا معهم أو لم نتفق ومع اختصاصهم ببعض القواعد والطرق التى لا تعارض القواعد الاصطلاحية المتفق عليها فلا يجوز لنا إنكار إسهاماتهم فى خدمة السنة الغراء ولا نستطيع أن ننفي عنهم اتباعهم واعتمادهم منهج أهل الحديث وجهودهم فى خدمته فى القديم والحديث .