
وقفات مع قوله تعالى: ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ...
أكرم رضا أبو زيدالحمد لله حمدا نستفتح به أبواب الرحمات، ونستهدي به من إلى طريق الخيرات، حمدا يستغرق العد والحد، وصلاة وسلاما على من أرسله الله رحمة للخلائق، فبه -صلى الله عليه وسلم- نرحم ونطمع في هبوب نسائم الرحمات علينا اليوم وفي أمس وغد.
أما بعد: فيا أحباب النبي المصطفى والرسول المجتبى -صلى الله عليه وآله- ها نحن قد أطل علينا هلال ربيع الأنور الذي أنار الدنيا بظهور خير الخلق وحبيب الحق فيه، وإذا أردنا أن نتحدث عن جنابه الشريف، وقدره المنيف، فإن العبارات تتلاشى، وتجف الأقلام، وتنتهي الأوراق، وما بلغنا في حقه ومقداره إلا أقل القليل، وذلك لإنه حبيب رب العالمين الذي لا يعلم قدره إلا رب العالمين، ولكنا حينما نتعرض للحديث عن حضرته لا نريد بذلك إلا التعرض لنظرته، والدخول في دائرة أهل خدمته -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك أيضا اتباعا لسنته ومنهجه في التبليغ عنه، والتذكرة لأهل الإيمان من أمته، فنسأل الله القبول والسداد، وأن يجعل تلك الكلمات من الكاتب والقارئ سببا في إدخال السرور على قلب سيد الخلائق -صلى الله عليه وسلم-.
وها أنا بحول الله وقوته أتعرض للحديث حول: وقفات مع قول الله تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فبادئ ذي بدء أحب أن نستحضر في قلوبنا أن ذلك من كلام الله الذي لو كان ما في الدنيا من البحار والأشجار حبرا وأقلاما وظل الخلق يكتبون ما في أسراره وأنواره من ابتداء الدنيا إلى انتهائها ما نفدت تلكم الأسرار والأنوار، ولكننا نسأل الله أن يرزقنا فهما وتدبرا يفتح لنا به مغاليق القلوب، لنطلع على أسرار علام الغيوب فيما خاطب به حبيبه المحبوب -صلوات الله وسلامه عليه- فهيا بنا لنطوف بالأرواح والقلوب حول تلك الآية الكريمة، والمتأمل في هذه الأوصاف يجد أنها كما جاء في الصحيح من الأوصاف التي وصف بها -صلى الله عليه وسلم- من قبلُ في التوراة، فانظر إلى الحديث الذي أخرجه البخاري: «عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا»، فها هي أوصافه التي جاءت في التوراة كما جاءت في القرآن، فتأملوا الخطاب من الله سبحانه وتعالى لنبيه وهو يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وانظر في كتاب الله وسنة حبيبه ومصطفاه بعين المتدبر الفطن، وقف مع تلك الآيات؛ لتعلم وتتعلم، وتحظى من خزائن أسرار الله المودعة في كتابه، فإذا سمعت قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا، تعلم بأنه -صلى الله عليه وآله- شهيدا وشاهدا علينا، فإذا علمت ذلك ينبغي عليك أن تستحي منه -صلى الله عليه وسلم- فلا تجعله يرى منك ما لا يحب أن يراه، وتعلم أيضا بأنه فينا كما قال رب العزة -جل جلاله-: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، والقرآن كلام الله حكمه باق، ولننظر في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ»، ومن المعلوم أن الشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة، فإذا اسحضرت تلك المعاني صار لك حالا مع الله ورسوله في المراقبة والمحاسبة لنفسك.
هذا ولنتأمل في قوله: وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، فتجد أن البشرى للمؤمنين أعظم بشرى هي محبته -صلوات الله وسلامه عليه-؛ إذ أن محبته دافع الاتباع، وثمرتها: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، فتحقق تلكم البشرى، فعسى الله أن يجمعنا بها مع حضرته يوم القيامة، ثم تنظر في قوله -عز من قائل-: وَنَذِيرًا، فتحترز من كل ما أنذر منه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه إنما يبشرك بالجنة، وينذرك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل، والمؤمن لا يكون حاله مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا سمعنا وأطعنا، رزقنا الله وإياكم التوفيق لما يحب ويرضى.
ثم للنظر في قوله تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، ونتأمل كونه -صلى الله عليه وآله- يدعونا إلى الله عن إذن منه سبحانه، ونفتش في أنفسنا عن مدى استجابتنا لتلك الدعوة، ولذلك الدعي -صلى الله عليه وسلم-، وهنا إشارة لطيفة ينبغي لكل داع إلى الله الوقوف عندها إذ أنه -صلوات الله وسلامه عليه- إمام الدعاة وقدوتهم، حيث نجد أن خليل الرحمن دعى ربه سبحانه قائلا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فبعث الله نبيه ومصطفاه على هذا النحو حيث قال -عز من قائل-: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وهنا الملمح والإشارة، حيث أجاب الله دعوة خليله لكن على النحو الذي ينبغي للمتأمل أن يتنبه له، وهو أن خليل الرحمن طلب من الله أن يبعث رسولا منهم يتلو عليهم الآيات ويعلمهم الكتاب والحكمة ثم يزكيهم، فكانت إجابة المولى سبحانه أن بعث فيهم رسولا منهم داعيا إليه سبحانه يتلو عليهم الآيات ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فكأن الله يقول لنا نعم لقد أجبت دعوة إبراهيم في إرسال وبعث رسولا من هؤلاء العرب داعيا لهم إليَّ ولكن على نحو من الترتيب غير الذي طلبه إبراهيم، فهو سبحانه الأعلم بما يصلح عباده، فكانت دعوة المصطفى -صلى الله عليه وآله- بتلاوة الآيات لتزكية الأنفس قبل تعليم الكتاب والحكمة، فلا تحلي قبل التخلي، والناظر في سنته يعلم ذلك، أما سعنا قوله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فيا أيها الداعي إلى الله اعلم أن هذا هو منهج سيد الدعاة إلى الله، ونحن مأمورون باتباعه واقتفاء أثره، فانظر إلى قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، فتحقق أيها الداعي بذلك المنهج القويم والطريق المستقيم في الدعوة إلى رب العالمين على أثر أمام المرسلين ورحمة الله للعالمين، حتى يكون لدعوتك أثر ونفع عميم، -وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين-.
ثم هيا لننظر ونتدبر في قوله تعالى: وَسِرَاجًا مُنِيرًا، لنعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل حبيبه نورا يهتدي به الناس من ظلمات الجهل والحيرة والغفلة، وهو النور الواضح المبين الذي من اهتدى به هدي، قال -عز من قائل-: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، فهو -صلى الله عليه وسلم- النور الذي جاءنا لنهتدي به ونزيل الظُلَّم، فإذا كان الله قد جعل الشمس سراجا، وجعل القمر منيرا، فإن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- هو السراج المنير الذي أضاءت الدنيا بطلعته، وانمحت الظلمة ببعثته، فهدى الله به من اتبع رضوانه سبل السلام.
وهذا ما قد جاد الله به على الفقير في الحديث عن جنابه الشريف بالوقوف مع قول ربنا -عز وجل- في حقه: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وأختم هذه المقالة بأبيات للشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي -رضي الله عنه- في مدحه -صلى الله عليه وسلم- حيث قال:
يا مرسلا بمعالم الفرقان ومؤيدا بطواسم القرآن
أنت المقدم ليس فوقك رتبة أنت المؤخر ليس بعدك ثان
أنت الذي جمع العلوم حديثها وقديمها بالوهب والبرهان
أنت النبي محمد علم الهدى السيد المختار من عدنان
لولاك ما ظهر الوجود ولا سمت أرواحنا نحو القصي الدان
ولما رأت أبصارنا وقلوبنا ما يرتقي عن رتبة الأذهان
والحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاما على سيد الأولين والآخرين.