
يا ربيع الخير
د. مجدي عاشورتتفاضل الأزمنة بما يحدث فيها من أحوال سَنِيَّة ، فشهر رمضان شُرِّف من أجل نزول القرآن الكريم فيه، يقول الله تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة:١٨٥] ، ولما جاء هذا التكريم والتفضيل، ناسب أن يتساوق معه التكليف الذي يليق به، فجاء الأمر الرباني بالصيام، فوردت تتمة الآية السابقة بهذا الحكم، فقال سبحانه : ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[البقرة:١٨٥] . وكذلك نرى في فضيلة الأشهر الحُرُم الثلاثة المتتالية، شوال وذو القعدة وذو الحجة، حيث جاء فيها فريضة الحج، فقال عز وجل : ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة:١٩٧] ، وغير ذلك من عباداتٍ شريفة منيفة.
ومن الأشْهُر التي شَرُفَ بها الزمان، وتنورت بها الأكوان، وحَقَّ أن يفخر بها من العقلاء ذوو البصائر والأحلام، ذاك هو شهر ربيع الأَوَّل، الذي حَلَّ فيه بالظهور العبدُ الأول والكامل المُكَمَّل، الذي غطى نوره نور كل المخلوقين، لأنه هو الأوحد الذي قال فيه رب العالمين : ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ [المائدة:١٥]، وهو الذي ترجمت شيئًا من ذلك النور الساري أمُّهُ المباركة السيدة آمنة بنت وهبٍ عليها السلام؛ فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «رأَتْ أُمِّي كأنَّهُ خرجَ منها نورٌ ، أضاءَتْ منه قصورُ الشامِ» [أخرجه أحمد والطيالسي والحارث في مسانيدهم].
ولمَّا خرج ذلك النور في شهر ربيع الأول، حَسُنَ بنا أن نسميه «ربيع الخير» ؛ إذ به عمَّت الخيرات على مَن حوله وما حوله ، ليس في وقته بل إلى قيام الساعة، لأنه سيظل نبراسًا وهاديًا ودالًّا على ربه عز وجل. وقياسًا على ما ذكرناه أوَّلًا من ربط الفضائل بالقربات، والتشريف بالتكليف، فما هو تكليفنا في شهر قد أَهَلَّ علينا فيه حبيبنا صاحب الطلعة البهية صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ليس أقل من الاحتفال والاحتفاء بقدوم حضرته في شهر مولده ..
شهر (ربيع الخير)..
وها أنا ذا أخاطب شهر (ربيع الخير ) الذي حَيِيَ بأن كان زمنًا وُلِدَ فيه صاحب كل خير ، ووجه الخير ، وقَدَم الخير ، ومصدر الخير، ومظهر الخير، ومرآة الخير، وطريق الخير ... لكل ذلك خاطبت (ربيع الخير) بتلك المناجاة والمخاطبات، وراعيت فيه حياته التي استمدها من صاحب الحياة الباقية والذكر الخالد، سيد الكونين والثقلين ... فقلت في ذلك :
(١) يا ربيع الخير:
عندما تأتي أول ليلة من ربيع الخير .. كأني وُلِدْتُ من جديد .. بل كأني كنت موجودًا بلا روح فأجد روحي عند مجيئك يا ربيع الحياة .. وإن كنت يوما أعاني قبلها من ظلام أو هَمٍّ أقول لنفسي : جاء الفرج والعطاء والحب بشهر ميلاد سيد ولد عدنان .. أول ليلة .. أول الفرحة .. فلتسعد يا مطيع ستزداد .. وتُجْبَر يا عاصي من خير زاد ..
يا حبيبًا جاء على شوق .. وجئتَ برحمة من فوق فوق ..
صلى الله عليه وآله وسلم
(٢) يا ربيع الخير:
لَمَّا هَلَّ الرَّبيعُ .. ربيعٌ الأْنوَرُ .. سألتُهُ وقلتُ له : يا ربيعُ ، أهكذا أنتَ جميلٌ مِن يومَ عَرَفُوكَ ؟! فَنَطَقَ بلسانِ الحالِ وقال لي : أنا لم أتَجَمَّلْ أو أتَزَيَّنْ إلا لأنني كنتُ الزمانَ الذي طَلَّ على الكََوْْنِ فيه نُورُ (مُحَمَّد) .. فأنا لم يَكُنْ أحَدٌ يَعْرِفُنِي قَبْلَ ذلك .. بل كنتُ كسائر الشُّهور .. حتى شَرَّفَنِي رَبِّي بميلادِ حبيبي الكامل المُؤَيَّد ..
هَنيئًا لك يا ربيعُ ، ونحن نَغْبِطُك .. فيكفيكَ فخرًا أنَّه عندما نَذْكُرُكَ نُصَلِّي ونُسَلِّمُ على حبيبِنا صاحبِ العطاءِ والمَدَد
صلى الله عليه وآله وسلم
(٣) يا ربيع الخير:
إذا سألناك يا شهرَ ربيعٍ الأوَّل .. ربيعٍ الأنور .. ربيعٍ الأجمل : يا ربيعُ ، ما الذي حَلَّاكَ ؟ وفَضَّلَكَ عمَّا سِوَاكَ ؟ سيقولُ في حياءٍ : لا تسألوني أنا . إذًا مَن نَسْأَلُ يا ربيعُ ؟ قال : سَلُوا أُمَّنَا آمِنةَ أُمَّ النُّور ، تلك التي حَمَلَتْ خير َرسول .. فستخبركم بما رأتْ وهي الصادقةُ الحَنُون .. فأَنْصَتْنَا لسيِّدَتِنا أُمِّ نَبِيِّنا ماذا ستقول ؟ .. فقالت : (رأيتُ حِينَ وضعتُ محمدًا نُورًا أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ) .. قال ربيع : فَبِهِ صلى الله عليه وسلم كنتُ شهرَ النُّور والسُّرور .. وفَضَّلَنِي اللهُ مِن بَينِ الشُّهور ..
صلى الله عليه وآله وسلم
(٤) يا ربيع الخير:
يا ربيع الخير استبشرت بمجيئك .. خاصة لما وجدتُ الهواء طلقًا في شهرك .. وارتفع عنا المطر حتى ما عاد يؤذينا .. وانصرف عنا المرض وابتعد عن أهالينا .. وقل فينا الموت وذهب عن نواحينا .. فأجابني الربيع قائلا : أريد أن أخبرك عن شيء قد يخفى عليك .. كل ما ذكرته لا تعتبره نقمة بل قد يكون سببًا لخير يصبح بين يديك .. فاجعله نعمة ما دام من المنعم واشكره على كل ما كان منه إليك .. ولتعلم أن كل هذا قد مر على من نحتفل بمولده هذه الأيام .. والخلاصة : كيف تفكر في كل هذا والمفترض أن لا تنشغل بشيء غير نبينا سَيد الأنام .. فهل فهمتَ يا إنسان ؟ قلت : نعم يا ربيع الخير ، فهمتُ .. وتعلمتُ منك الليلة أحسنَ الكلام ..
صلى الله عليه وآله وسلم
(٥) يا ربيع الخير :
مُنْذُ دَخلتَ علينا يا ربيعَ الخير ونفحاتُكَ ظاهرة .. وكُلَّما شَمَمْتُ عَبيرَكَ أجِدُ نَفْسي ساكنة .. سألتُ وقلتُ : يا ربيعُ ، ما هذا الجمالُ والراحةُ والطمأنينة ؟ فأجابني متواضعًا : هل تَظُنُّ أنَّ كُلَّ ذلك مِنِّي ؟ إِذَنْ فأنتَ لم تَعْرِف الحَقيقة .. وسَأُعَرِّفُكَ ما لم تُدْرِكْهُ بالبَصيرة .. يا إنسان ، أنا قد آتِي في أيِّ فَصْلٍ مِن فُصُولِ العَام .. ولكنَّ عِطْرِي دائمًا يُصَاحِبُنِي .. وسَكِينتي حيثما كنتُ مَعِي .. أتدري لماذا ؟ لأنها ليستْ مِن عِندي .. وإنما هي ببركةِ أنوارِ سَيِّدِي .. ذلك الذي شَرَّفَنِي .. بأنْ وُلِدَ في شَهْرِي .. أعرفتَهُ يا إنسان ؟ إنَّه نورُ الوجودِ (مُحَمَّدٌ) الهَادِي .. فَهَيَّا إلى تَحِيَّتِهِ بما جاءَ في أَمْرِ رَبِّي : (صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ..
صلى الله عليه وآله وسلم
(٦) يا ربيع الخير:
كنتُ جالسًا وَحْدِي .. فجاءني مَن يَقولُ لي : إنَّ الاحتفالَ بالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ بِدْعَة ؟! فتعجبتُ كيف سَمَحَ لِنَفْسِهِ أنْ يَجْمَعُ بَينَ كلمة ( بدعة ) ولفظة ( النبوي ) الشريفة ؟! وقلتُ : أنا لنْ أَرُدَّ عليك .. بل سأتركُ ربيعَ الخيرِ يُجِيبُكَ .. فقال ربيع : ألمْ يَعْلَمْ هذا المعترضُ بأنَّ هناكَ مَن يَحْتَفِلُ بسيدنا النبيِّ قَبْلَ مَولدِهِ وبَعْدَهُ إلى أَبَدِ الآبَادِ ؟! وإنْ سألَكَ : ما الدليلُ على ذلك ؟ قُلْ له : أََلمْ تَقرأْ وتَتَدَبَّرْ قَولَ ربِّك (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) .. فاللهُ والملائكةُ يَذكرونَهُ .. فقلتُ لربيع : لَيْتَهُم يَعرفونَ قَوْلَكَ ويَشْعُرونَ بِكَ ويَفهمونك .. ثم انْصَرفْتُ وقُلتُ : شكرًا لَكَ .. يا ربيع الخير .. وسأَظَلُّ أُرَدِّدُ مع المُحِبينَ :
صلى الله عليه وآله وسلَّم
وختامًا لا يسعني إلا أن أتنفس بتلك الأبيات النابضة بالحب، في حَق الجناب النبوي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي:
وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت
إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي
وَلا ذَكَرتُكَ مَحزونًا وَلا فَرِحًا
إِلّا وَأَنت بِقَلبي بَينَ وَسواسي
وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم
إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي
وَلا هَمَمتُ بِشُربِ الماءِ مِن عَطَشٍ
إِلّا رَأَيتُ خَيالًا مِنكَ في الكَأسِ
وَلَو قَدَرتُ عَلى الإِتيانِ جِئتُكُم
سَعيًا عَلى الوَجهِ أَو مَشيًا عَلى الرَأسِ
اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيدنا النبيِّ ، سيدنا محمدٍ حبيبي (اللي مالوش زَيّ)، صلاةً ما انتهت إلا بدأتْ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.