
ظهور المهدي حق (1)
السيد عبد الله بن الصديق الغماريمن مجموع مقالات نُشرت في مجلة الإسلام أوائل القرن العشرين
في تواتر أحاديث المهدي
يعتقد كثير من الناس فيهم علماء وأفاضل - أنَّ لا مهدي -، جاهلين بما ورد من الأحاديث القاضية بظهوره في آخر الزمان، ولقد أُخبِرت عن بعض العلماء المدرسين بالأزهر أنه جرى بمجلسه ذكر المهدي عليه السلام فأنكره وقال: إن أحاديثه ضعيفة.
فقلت لمن أخبرني: هلا سألته عن سبب ضعفها وعمن ضعفها من الحُفَّاظ؟ مع أنه لو سُئل عن ذلك لما استطاع - وأيم الله - جوابًا، وكيف يستطيع وأحاديث المهدي متفقٌ على تواترها بين حفاظ الحديث ونُقَادِّه؟!
فقد قال الحافظ أبو الحسين الآبري في "مناقب الإمام الشافعي" ما نصه: « تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بمجيء المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملأ الأرض عَدْلًا، وأنَّ عيسى عليه الصلاة والسَّلام يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأُمَّة وعيسى عليه الصَّلاة والسلام خلفه... في طول من قصته وأمره. » اهـ
ونقله القرطبي في "التذكرة"، والحافظ ابن حجر في "الفتح"، والحافظ السخاوي في "فتح المغيث"، والحافظ السيوطي في "العرف الوردي"، والمحدث الشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني في "شرح المواهب"، وشارح "الاكتفاء"، وغيرهم، وأقروه عليه.
وقال المحدث الناقد أبو العلاء السيد إدريس بن محمد بن إدريس العراقي الحسيني في تأليف له في المهدي ما نصه: « أحاديث المهدي متواترة أو كادت، وجزم بالأول غير واحد من الحفاظ النقاد. » اهـ
وقال الشوكاني في تأليف له سماه "التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح" ما نصه: « والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها؛ منها خمسون حديثًا فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحرَّرة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرةٌ أيضًا لها حكم الرَّفْع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك. » اهـ
وقال المحدث أبو الطيب صديق بن حسن الحسيني البخاري القنوجي ملك «بهوبال» في كتاب "الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة" ما نصه: « والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدًّا. تبلغ التواتر، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد ». وقال أيضًا بعد كلام له ما نصه: « وأحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، وأمره مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار».
وقال العلامة أبو عبدالله محمد جَسُّوس في "شرح رسالة ابن أبي زيد" ما نصه: « ورد خبر المهدي في أحاديث ذكر السخاوي أنها وصلت إلى حد التواتر. » اهـ.
وقال العلامة الشيخ محمد العربي الفاسي في "المراصد " :
ومَا مِن الأَشْرَاطِ قَدْ صَحَ الخَبَر *** به عن النبي حَقٌّ يُنتظر
ثم ذكر جملة منها إلى أن قال:
وخبر المهدي أيضًا وَرَدَا *** ذا كثرة في نَقْلِهِ فَاعْتَضِدًا
قال شارحه المحقق أبو زيد عبدالرحمن بن عبدالقادر الفاسي في "مبهج المقاصد": « هذا أيضًا مما تكاثرت الأخبار به، وهو المهدي المبعوث في آخر الزمان، ورد في أحاديث ذكر السخاوي أنها وصلت إلى حد التواتر».اهـ
وقال السفاريني في عقيدته المسماة بـ"الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية":
وما أَتَى فِي النَّص مِن أَشْرَاطِ *** فكله حق بلا شَطَاطِ
منها الإمامُ الخَاتَمُ الفَصِيحُ *** محمد المهدي والمسيح
وقال أيضًا في شرحها: « كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل: لا مهدي إلا عيسى، والصواب الذي عليه أهل الحقِّ: أنَّ المهدي غير عيسى، وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السُّنَّة حتى عُدَّ مِن مُعتقداتهم ».
ثُمَّ ذكر بعض الأحاديث الواردة فيه من طريق جماعة من الصحابة ثُمَّ قال: « وقد روي عمَّن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم بروايات متعددة، وعن التابعين من بعدهم مما يفيد مجموعه العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومُدَوَّنٌ في عقائد أهل السنة والجماعة ».اهـ
وممن نصَّ على تواتر حديث المهدي شيخ بعض شيوخنا الإمام العلامة خاتمة المحدثين بفاس قطب الدين السيد محمد بن جعفر الكتاني، إذ أورده في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" من طريق عشرين صحابيًّا، ونقل من نصوص العلماء نحو ما نقلناه آنفًا ثم قال ما نصه: « وتتبع ابن خلدون في مقدمته طرق أحاديث خروجه مستوعبًا لها بحسب وسعه، فلم تسلم له من عِلَّة، لكن رَدُّوا عليه بأن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها كثيرة جدًّا تبلغ حد التواتر، وهي عند أحمد والترمذي وأبي داود وابن ماجه والحاكم والطبراني وأبي يعلى والبزار وغيرهم، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة، فإنكارها مع ذلك مما لا ينبغي، والأحاديث يشد بعضها بعضًا، ويتقوى أمرها بالشواهد والمتابعات، وأحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف ».اهـ
ونصوص العلماء في هذا كثيرةٌ جدًّا، وليس غرضنا استقصاءها ولا التعرض لرد كلام ابن خلدون، إذ قد تصدى لذلك شقيقنا العلامة المحدث السيد أحمد في كتاب خاص سماه "إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون" نقض فيه كل ما أبداه ابن خلدون من المطاعن، وتتبع كلامه جملة جملة بحيث لم يترك بعده لقائل مقالًا، وإنما غرضنا أن نذكر أحاديث المهدي معزوة لمن خرجها من أئمة الحديث، ونتكلّم على أسانيدها تصحيحًا وتحسينًا وتضعيفًا بمقتضى القواعد المحرَّرة في عِلْمَي الحديث والأصول حتى يصير تواترها ملموسًا لكل أحد فنقول:
ورد ذكر المهدي من حديث أبي سعيد الخدري، وعبدالله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأُمّ سلمة، وثَوبان، وعبد الله بن الحرث بن جُزء الزبيدي، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وجابر بن عبدالله الأنصاري، وعثمان بن عفان، وحذيفة بن اليمان، وجابر بن ماجد الصدفي، وأبي أيوب الأنصاري، وقرة المزني، وابن عباس، وأم حبيبة، وأبي أمامة الباهلي، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعمار بن ياسر، والعباس بن عبد المطلب، والحسين بن علي، وتميم الداري، وعائشة، وعبدالرحمن بن عوف، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيدالله، وعلي الهلالي وعِمران بن حصين، وعمرو بن مرة الجُهَني، وعوف بن مالك، وأبي الطفيل، ورجل من الصحابة، وقيس بن جابر عن أبيه عن جده رضي الله عنهم.
ومن مرسل سعيد بن المسيب، والحسن، وقتادة، وشَهر بن حَوْشَبٍ، وَمَعْمَرٍ. هذا في المرفوعات دون الموقوفات والمقطوعات، وهي كثيرة أيضًا لها حُكم الرفع؛ لأن الإخبار بالمغيبات كالمهدي مما لا مجال فيه للاجتهاد فيُحمل على الرفع.
قال الحافظ العراقي في "الألفية":
وما أتى عن صَاحِبٍ بحيثُ لا *** يُقال رأيَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ على
ما قال في المحصول نحو مَنْ أتى[1] *** فالحاكمُ الرَّفْعَ لهذا أَثْبَتَا
وقال الحافظ أبو عمرو الداني: « قد يحكي الصحابي قولًا يوقفه على نفسه فيخرجه أهل الحديث في المسند؛ لامتناع أن يكون الصحابي قاله إلَّا بتوقيف، كحديث أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: « نِسَاءٌ كَاسِيات عاريات مَائِلاتٌ مُميلات» . فمثل هذا لا يقال مِن قِبل الرأي فيكون من جملة المسند ». اهـ
قال ابن العربي المعافري في "القبس": « إذا قال الصحابي قولًا لا يقتضيه القياس فإنه محمول على المسند إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومذهب مالك وأبي حنيفة أنه كالمسند وهو ظاهر كلام الشافعي في الجديد كما قال الحافظ السخاوي ».
وقال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة": « ومثال المرفوع حكمًا لا تصريحًا أن يقول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات ما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء عليهم السلام، أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص؛ وإنما كان له حكم المرفوع لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرًا له، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي موقفًا للقائل به، ولا موقف للصحابة إِلَّا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أو بعض مَن يُخبر عن الكتب القديمة، فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني، وإذا كان كذلك فله حكم ما لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ، فهو مرفوع سواء كان ممن سمعه منه أو عنه بواسطة ». اهـ ونص ابن العربي على أنَّ ما جاء عن التابعين مما لا مجال فيه للاجتهاد، له حكم الرفع أيضًا، ونقله عن مذهب مالك.
قلت: وعلى هذا يكون مرسلًا، فيُحتج به عند مالك وأبي حنيفة مطلقًا، وعند غيرهما إذا عضده موصول ضعيف، أو مرسل آخر يروي مرسله عن غير رجال الأول، وإنما أتينا بهذه النصوص ليعلم القارئ حكم الآثار التي سنوردها بعد الانتهاء من ذكر الأحاديث المرفوعة في المهدي...(يتبع).
[1] يعني حديث: « مَن أَتَى سَاحِرًا أو عَرَّافًا فقد كَفَر بما أُنزِلَ على محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم ». فإنَّ الحاكم رواه عن ابن مسعود موقوفاً وحكم له بالرفع وتورع في ذلك، على أنه ورد مرفوعًا من طرق أخرى صحيحة . اهـ كاتبه.